Skip to main content

الثورة الإسلامية والتحديات الثقافية

التاريخ: 18-06-2011

الثورة الإسلامية والتحديات الثقافية

يمثل خطاب قائد الثورة الإسلامية لدى استقباله رئيس وأعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية في إيران، مدخلا لتناول المشروع الثقافي للثورة وللحديث عن التحديات التي تواجهها الثورة على صعيد الهوية والأسس الثقافية

يمثل خطاب قائد الثورة الإسلامية لدى استقباله رئيس وأعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية في إيران، مدخلا لتناول المشروع الثقافي للثورة وللحديث عن التحديات التي تواجهها الثورة على صعيد الهوية والأسس الثقافية.

 

بعد أسبوع على تعيين الرئيس الجديد والأعضاء في المجلس الأعلى للثورة الثقافية في دورته الجديدة، ألقى سماحة الإمام السيد علي الخامنئي خطابا تاريخيا في أعضاء هذا المجلس، اشتمل على التذكير بمهمة المجلس والتشديد على خطورة وحساسية موضوع الثقافة باعتبارها مجال صراع واشتباك متواصل مع المشروع الاستكباري، مشيرا إلى سبل التصدي للغزو الثقافي المتضاعف على الجمهورية الإسلامية والذي "يكمن في توسيع وترسيخ رسائل الثورة الإسلامية في المجالات الأخلاقية والسلوكيات الفردية والاجتماعية والمعتقدات الدينية والقضايا السياسية"، ومؤكدا في الآن نفسه على أنّ مهمة رسم الخطوط الإستراتجية العريضة للمشروع الثقافي أو بحسب تعبير سماحته؛ "صياغة خارطة الهندسة الثقافية" تبقى من اختصاص المجلس الأعلى الذي يتوفر على ضمانات دستورية وتنفيذية ، كما شدد سماحته على الاهتمام بالنخبة المثقفة والعناية بأفكارها الخلاّقة والعمل على استيعابها ضمن أطر العمل الثقافي المتعددة.

 

بعد سنتين تقريبا من انتصار الثورة الإسلامية أعلن الإمام الخميني(قده) عن تشكيل المجلس الأعلى للثورة الثقافية، وقد مثّـل ذلك الإعلان التاريخي أحد القرارات الحاسمة والمصيرية في تأمين هوية الثورة وتحصين مجتمعها من كل اختراق، فقد فتح انتصار الثورة على صيرورات من البناء الذاتي لإعادة تأهيل مجتمع الثورة وفق القيّم والأهداف الكبرى للإسلام التي جاءت الثورة لتجسيدها على أرض الواقع، وصولا إلى بناء النموذج الملهم للشعوب والمستضعفين في العالم، كما فتح على تحديّات الخارج وفي طليعتها الاستهداف الأمريكي الواسع والمفتوح على كل الخيارات لإجهاض الثورة وإعاقة تكاملها وتقدمها.

 

في استراتجيات الهيمنة وتجارب الاستعمار نلاحظ أن المسألة الثقافية احتلت دائما أهمية حيوية، فالتجربة الاستعمارية تمدّنا بمعطيات دقيقة حول الاستهداف الممنهج الذي كانت تتعرض له منظومة القيم الأخلاقية والدينية (وهذه القيم تعد من مشمولات مفهوم الثقافة كما هو متسالم عليه في علم الاجتماع) من قبل الدول الاستعمارية، وتبرز لنا كيف أن درجة التفكيك للنظام القيمي كانت تعدّ مقياسا في نجاح المشروع الاستعماري، بل وكانت إلى جانب النخب الموصولة ثقافيا بالاستعمار تمثل الضمانة الأوثق التي استطاعت من خلالها القوى الاستعمارية تأمين شبكة مصالحها في الدول المستعمَرة، والهيمنة -أيضا- على قرارها السياسي في مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر.

 

هذه الخبرة الاستعمارية المتراكمة لدى بريطانيا خاصة؛ استتثمرها الاستكبار العالمي في حربه على الجمهورية الإسلامية في إيران منذ قيامها، وإذا كانت العُشرية الأولى من عمر الثورة؛ أي حتى نهاية الحرب المفروضة؛ قد سعى فيها الاستكبار ـ إلى جانب مراهنته على نتائج الحرب ـ وعلى الصعيد الثقافي إلى تشويه صورة المشروع الإسلامي الثوري ومحاولة الحدّ من تأثيراته عبر أساليب الدعاية المغرضة واللعب على الورقة المذهبية.. فإن العقدين الأخيرين قد عرفا تصاعدا وقوة في حجم الهجمة الثقافية على إيران؛ خاصة مع الإمكانات التقنية وبروز مشروع العولمة المتأسس على فكرة صِدام الحضارات، وفلسفة نهاية التاريخ على مشهد النظام "الرأسمالي الليبرالي" باعتباره المرحلة النهائية في التطور العقائدي للجنس البشري على حدّ زعم فرانسيس فوكوياما.

 

إنّ تطور مقدرات النظام الإسلامي وتحوّله برغم كلّ المؤامرات إلى لاعب إقليمي فاعل يعرقل حركة المشروع الأمريكي/الصهيوني في المنطقة بل ويكون عاملا حاسما في إفشال على أكثر من ساحة على المستوى الإقليمي، جعل الثقل الأكبر في الهجمة الثقافية التي يشنها الاستكبار يتركز على إيران، وهذا ما أشار إليه سماحة الإمام الخامنئي حين قال: "إن نطاق الغزو الثقافي لجبهة الاستكبار، يشمل دول العالم كلها، إلا أنّ المستهدف الأهم والأول في هذا الغزو هو نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لأن النظام الإسلامي وقف صامدا أمام نظام الهيمنة، وأثبت بأنه صادق في هذا الصمود وله القدرة أيضا على المواجهة والتقدم".

 

حجم الاستهداف هذا، تعبّر عنه ضخامة الميزانيات المعتمدة، وجسارة القرارات التي يعتمدها الكونغرس الأمريكي في كلّ حين لزعزعة الاستقرار في إيران، ويتمثل أيضا في الدور التحريضي والتخريبي(بالمعنى الثقافي) للقنوات التلفزيونية الناطقة بالفارسية والتي تبث من بعض الولايات الأمريكية، بالإضافة إلى خدمات الانترنت المتطورة التي اجتهدت الدوائر الاستخباراتية الأمريكية في جعلها الواجهة الإعلامية لثورة مضادة مأمولة، ولا يجب أن ننسى إطلاق قناة البي بي سي بالفارسية شهورا قليلة قبل الاستحقاق الانتخابي الرئاسي في إيران.. في ذات السياق يمكن أن نستحضر ما كتبه وليام كريستول بعد احتلال القوات الأمريكية للعراق ـ وكان في حينه من أكثر الكتّاب المعبرين عن وجهة نظر صقور المحافظين الجدد في وسائل الإعلام الأمريكية ـ في مقال تحت عنوان (نهاية البداية) جاء فيه: "تحرير العراق كان أكبر المعارك الكبرى من أجل مستقبل الشرق الأوسط ... ولكن المعركة الكبرى القادمة ـ ونتمنى ألاّ تكون معركة عسكرية ـ سوف تكون من أجل إيران"، فاللافت في هذا الكلام هو التعبير عن المخطط بالمعركة الكبرى، والتي كان يراهن الكاتب؛ وهو لم يكن إلاّ معبّرا عن مخططات المحافظين الجدد؛ على أن لا تكون عسكرية، بمعنى تحقيق نفس أهداف غزو العراق لكن بأدوات ثقافية وسياسية وإعلامية، وبالاعتماد على أطراف داخلية، وهذا ما يسمى بالثورة المخملية.

 

هي حرب لم تتوقف، ولم يخف وطيسها ـ غير المسموع ـ مع تعاقب الإدارات الأمريكية لأكثر من ثلاثة عقود، وكانت إحدى حلقاتها الأخطر في الدخول الاستكباري بكل ثقله الإعلامي والدعائي والثقافي على خط الأحداث التي أعقبت الانتخابات الرئاسية قبل سنتين تقريبا، فقد تحولت مفاهيم ملغمة كـ (الديمقراطية) والحريات وحقوق الإنسان إلى أهم السلع في الإستراتجية التسويقية للمفاهيم الأمريكية لضرب إيران والنيل من نظامها السياسي القائم على مبدأ ولاية الفقيه.

 

ويبقى أنّ التحدي الخارجي ليس هو البند الوحيد والأهم في جدول أعمال المجلس الأعلى للثقافة الإسلامية، لأنّ وظيفته أيضا هي بناء مجتمع الثورة بما يتوافق وهويته الدينية، فضلا على أنّ هناك تحديات داخلية تتمثل في معالجة بعض ظواهر الخلل في التدين الاجتماعي، وهناك الظاهرة المقلقة والمتمثلة في تراجع الوظيفة التأطيرية للقيّم الدينية وتوجيهها للسلوكات الفردية والاجتماعية، وعدم تجدد الخطاب الديني وفق إيقاع يواكب أسئلة الشباب ويستجيب لانتظاراتهم وتوقعاتهم من الدين، وهذا ليس معناه تطويعا للدين بل الكشف عن القابليات الموجودة فيه، والأحكام المكنونة التي تجليها فاعلية الاجتهاد على وفق أصوله وشروطه وضوابطه.

 

كما أن التحدي الأبرز دينيا هو في عودة قوية للخطاب المذهبي المغلق على حساب الخطاب الإسلامي الأصيل الذي عبّر عنه الإمام الخميني(قدس سره) ونخبة من تلامذته كالشهيد مطهري وسماحة الإمام الخامنئي.. ومثـّل خطاب الثورة وكان التعبير الأصدق عن رؤيتها الدينية.

 

يسجل للمجلس الأعلى للثورة الثقافية ومنذ تأسيسه؛ أنّه يتصرف على أساس أن عملية التحول الثقافي مشروع شاق وطويل، لذلك نجده لا يستعجل النتائج بما لا يتناسب مع إيقاعات الحركة التي تفرضها البنيات الثقافية حيث تحتاج إلى الوقت كي تتغير أو كي تحصل فيها القطيعات المتوقعة.

 

كما يُسجّل للمجلس مرونته الكبيرة في التعاطي بحكمة مع حقيقة تفاوت القابليات الدينية والمعنوية على الصعيد الاجتماعي، فليست هناك نزوعات لتنميط التعبيرات الدينية والثقافية بقدر ما نحن أمام مستويات من التنوع والتفاوت وفق الحد الذي ينص عليه القانون.

 

يبقى استدراك على هذا المجلس العتيد، وهو في أن يعمل على تجاوز التقصير في عكس المشهد الثقافي الإيراني إعلاميا إلى خارج إيران؛ وهو المتسم بالحيوية والإبداع والتنوع والغنى في مضمون قيمته، كما في القيمة الفنية لتعبيراته.. ولعلّ ساحة الجوار العربي الأقرب ثقافيا وجغرافيا تكون مهيأة لذلك بفعل نهضة الشعوب وانتفاضاتها.

 

فبعد أن تُحسم المعارك السياسية، و يتم تخطّي المراحل الانتقالية.. ستكون الأولوية للثقافة، والثقافة التي تبلورت في إيران بعد الثورة ونمت في جوّ من الحرية ستجد لها بيئة صديقة تتوق لإعادة اكتشافها والتفاعل معها على وفق ثابت التثاقف التاريخي الذي حكم العلاقة بين المجالين العربي والإيراني.

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة