Skip to main content

الموقف التاريخي المطلوب مع الثورة أم الثورة المضادة؟

التاريخ: 06-06-2011

الموقف التاريخي المطلوب مع الثورة أم الثورة المضادة؟

سوف يشهد التاريخ على أن إجهاض حركة التغيير الديمقراطي العربية سيكون واحدة من كبرى الجرائم ضد الإنسانية ترتكبها قوى الثورة المضادة، فهو يتم بتخطيط واع ومتواصل، وبأساليب تضليلية غير واضحة المعالم للمراقب العادي لأنه يتم من وراء الكواليس وتحت غطاء (دعم) الديمقراطية

سوف يشهد التاريخ على أن إجهاض حركة التغيير الديمقراطي العربية سيكون واحدة من كبرى الجرائم ضد الإنسانية ترتكبها قوى الثورة المضادة، فهو يتم بتخطيط واع ومتواصل، وبأساليب تضليلية غير واضحة المعالم للمراقب العادي لأنه يتم من وراء الكواليس وتحت غطاء (دعم) الديمقراطية.

 

ومن خلال متابعة تطور الثورات التي ابتدأت بتونس، يتضح أن وتيرة التغيير أقل كثيرا مما كان الثائرون الذين ملأوا الشوارع والساحات بأعداد غير مسبوقة في حركة التغيير العربية منذ عقود يتوقعون. فإذا كان شعبا تونس ومصر قد حققا انجازا كبيرا بخلع رئيسيهما، إلا أنهما ما يزالان ينتظران التحول نحو الديمقراطية الحقيقية، ويواجهان ضغوطا سرية وعلنية متصاعدة من قبل قوى الثورة المضادة تهدف لتحجيم مدى التغيير ومحاصرة الدور الشعبي في الحكم والإدارة. يتم ذلك بتوافق تقوم به قوى الثورة المضادة لاحتواء الأنظمة الجديدة ضمن فلك النفوذ الغربي، ومحاصرة روح التغيير ضمن الحدود القطرية لكي لا تتحول إلى أيقونات للتغيير في المحيط العربي. ينطبق هذا الأمر على الوضع في تونس، ولا يختلف كثيرا في مصر. فبرغم تفاؤل الكثيرين بأن الجيش لعب دورا ايجابيا في عملية انتقال السلطة فثمة إدراك لتلكؤ قياداته في تنفيذ مشروع التحول الكفيل بإيصال الشعب إلى نظام ديمقراطي يحقق أهداف الشعب والثورة. فقد دعا النشطاء الذين قادوا الانتفاضة التي أطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك في شباط/ فبراير الماضي إلى (ثورة ثانية) على ما يرون أنه تباطؤ في الإصلاحات ومحاكمات مسؤولين سابقين بتهم فساد وإساءة استغلال السلطة.

 

وخرجت الأسبوع الماضي تظاهرات حاشدة لمنع حالة الركود التي تهيمن على المشهد السياسي، سواء كان ذلك ناجما عن عجز ذاتي في الهيكل العسكري أم نتيجة أجندة خارجية تفرضها قوى الثورة المضادة لمنع تحقق التغيير السياسي المنشود في كبرى الدول العربية. الأمر المؤكد أن ثمة صراعا يحدث في السر والعلن على النفوذ في المنطقة بين التيار التغييري الذي كان من المفترض أن تقوده مصر بعد سقوط حسني مبارك وقوى الثورة المضادة المتمثلة بالسعودية و(إسرائيل) والولايات المتحدة وبريطانيا.

 

ماذا يعني ذلك؟ وماذا يعني تلكؤ الثورات الأخرى؟ فكلا الثورتين تمكنتا من إسقاط رئيسي بلديهما في غضون فترة لا تتجاوز الشهر، بينما ما تزال الثورات الأخرى تراوح مكانها، أو ربما أجهضت تماما (كما هو الحال في الأردن والمغرب). انطلقت الثورات جميعا على خلفية واقع شعوبها المتخلف وتطرف النخب الحاكمة في استبدادها وقمعها، مع اختلافات محدودة في مستويات الاستبداد والقمع، فكيف سقط زين العابدين بن علي وأعقبه حسني مبارك، بينما ما يزال حكام البحرين وليبيا واليمن مكانهم؟ الأمر المؤكد أن الثورتين التونسية والمصرية فاجأتا أصحاب القرار السياسي في الغرب وفي دول المنطقة، فتوالت التطورات بسرعة ولم يستطع أحد منع سقوط حاكمي البلدين. ولكن سرعان ما تحركت قوى الثورة المضادة التي كانت قد بدأت تنظم نفسها بعد أسابيع قليلة من اندلاع ثورة تونس، بل إنها حاولت منع سقوط بن علي، وضغطت السعودية بشكل مكشوف على إدارة اوباما لمنع سقوط مبارك، ولكنها فشلت في ذلك. فتغيرت خطة عمل تلك القوى، واستبدلت منع سقوط الزعماء كما حدث في تونس ومصر بعرقلة الثورة ومسيرتها، بأية صورة، ومهما كان ثمن ذلك. وجاء التدخل الغربي في ليبيا متحمسا في ظاهره لإحداث التغيير، ولكن لوحظ بشكل تدريجي أن نتائج تلك الثورة لا يمكن أن تكون خارج المنظورات والإرادات الغربية. ومن خلال ما جرى يمكن استنتاج نظرية جدية مفادها أن التغيير السياسي في الدول العربية مؤجل حتى يتم التوصل إلى (تفاهم) بين قوى الثورة المضادة والعالم الغربي، وعلى وجه الخصوص: الولايات المتحدة وبريطانيا. وقد تم العمل وفق هذه النظرية في أغلب المحاور الثورية. فتدخلت السعودية، وهي رأس الحربة في مشروع الثورة المضادة، للتظاهر على الأقل بالتصدي لإسقاط نظام معمر القذافي في ليبيا.

 

ووفقا للمعلومات المتوفرة فقد تعهدت السعودية بدفع نفقات الحرب الانكلو ـ أمريكية ضد نظام القذافي. والهدف من ذلك التحكم في نمط الحكم المستقبلي في ذلك البلد. هذا هدف استراتيجي ليس فيه ضعف أو تردد، بل هو واحد من الثوابت التي ترتكز عليها سياسات دول مجلس التعاون التي جمعت نفسها هذه المرة بشكل غير مسبوق، منذ تأسيس المجلس في شهر مايو(أيار) قبل ثلاثين عاما. وقد رشحت الأسبوع الماضي في وسائل الإعلام البريطانية معلومات جديدة عن تدريب بريطانيا فرقا أمنية سعودية للاستخدام ضد الثورة في البحرين، الأمر الذي يظهر بكل وضوح الدور البريطاني في التصدي للثورات العربية.

 

مشروع التعاطي مع الثورات الشعبية انطلق بهدف ضمان عدد من الأمور: أولها أن يحدث التغيير ولكن ضمن الضوابط التي يطرحها الغربيون، ثانيا: أن لا يتحقق بمحض الإرادة الشعبية، بمعنى أن التغيير لن يكون استجابة مباشرة للقوى الثورية، بل بالتدخل الأمريكي المباشر لدى الأنظمة المحاصرة بالثورات، والتحاور معها إزاء ما يمكن عمله وما لا يمكن. ثالثا: أن يكون تدريجيا وليس بشكل مباشر، لكي لا يتسنى للقوى الثورية فرصة لأداء الثورة والتعاطي مع استمرارها وما قد ينجم عن ذلك.

 

رابعا: أن يكون التغيير المطلوب عاملا يؤدي إلى استقرار المنطقة وفق المعايير الغربية ولا يخلط الأوراق أو يقلب الموازين.

 

الغربيون يدركون أن التغيير الذي يحدث بأنماط ثورية لا يمكن أن يواجهه أحد لأنه يعبر عن موقف عام للأمة.

 

خامسا: إن العالم العربي أصبح الآن بدون قيادة ميدانية قادرة على التعاطي مع المشتركات، وأصبحت قيادة كل من الثورات محاصرة من قبل قوى الثورة المضادة من جهة وأجهزة القمع السلطوية من جهة أخرى. وهكذا يتوالى المشهد السياسي في الدول العربية في الوقت الحاضر. بين ركود محبط للآمال في مقابل الفعل الغربي الذي يرتب أوراقه وفق تطورات الساحة المباشرة، وأمل بتحقيق التغيير ضمن الضوابط التي طرحتها الحركات المعارضة، خصوصا الإسلامية منها. قوى الثورة المضادة خططت لاستعادة زمام المبادرة بعد تونس ومصر، وأصبحت تملي شروطها الواضحة للتغيير على القوى الميدانية المضادة للأنظمة القائمة. مفاد المشروع الغربي الخاص بثورات العالم العربي أن التغيير غير ممكن إلا من خلال البوابة الغربية، ضمن شروط الحرب القائمة وأخلاقية التصادم بين الفرقاء. ولتأكيد هذا المنحى، أي استعداد قوى الثورة المضادة لمنع انتصار الثورات، يمكن ملاحظة ما جرى للثورات الثلاث الأقوى بعد ثورتي تونس ومصر: البحرين وليبيا واليمن. فثورة البحرين هي الأقدم من بين الثورات الثلاث. فكيف تم التعامل مع هذه الثورة؟ تقول صحيفة (واشنطن بوست): (مثلت الثورة في البحرين أولى النتائج المختلفة للثورات الشعبية، حيث سرعان ما تم إخماد الثورة الشعبية بالقوة والقسوة وبدعم من قوات درع الجزيرة التي انطلقت من السعودية، وسط ادعاءات لجماعات حقوق الإنسان في البحرين في أن السلطات تمارس اضطهادا ممنهجا ضد الأغلبية الشيعية التي قادت الاحتجاجات في البلاد). فما إن اتضح أن الثورة جادة ومتسارعة ومصممة على إسقاط نظام حكم عائلة آل خليفة، حتى طرح أشد الأسلحة فتكا: السلاح الطائفي. إنه أفضل الأسلحة من بين ترسانة الأسلحة المعدة للثورة المضادة. هذا السلاح يدغدغ عواطف البعض، خصوصا من الإسلاميين، وكان امتحانا لمدى وفاء العناصر الثورية لمشروع الثورة، ومدى وعيها لمشروع الثورة المضادة. والأمر المؤسف أن يكون لهذا السلاح وقع في نفوس بعض الرموز الدينية والحركات السياسية، برغم أن من بين المتصدين للتغيير في البحرين عناصر من كافة الأطياف السياسية والمذهبية. وتجدر الملاحظة أن من بين الأسماء الـ 21 للرموز القيادية التي تحكم في الوقت الحاضر يبرز اسم الأستاذ إبراهيم شريف، واحدا من ألمع الشخصيات الوطنية المعارضة ذات الاتجاه الليبرالي والمنحدر من عائلة سنية. مع ذلك تصر قوى الثورة المضادة على تسويق خطابها الذي يستعمل الطائفية لبناء حواجز نفسية بين أبناء الأمة الواحدة بهدف إضعاف إرادة التغيير لديها. إن القبول بهذا التمييز في وصف الثورات سقوط في فخ قوى الثورة المضادة. فهذا السلاح يستعمل الآن في مصر لإثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين وبين المسلمين العاديين والصوفيين وبين السنة والشيعة.

 

أما ثورة ليبيا فقد تم إيصالها إلى طريق مسدود، بعد أن دخل الغربيون على خطها بعناوين شتى أبرزها (حماية الشعب الليبي) ومنع قوات القذافي من الوصول إليهم. فما بدأ ثورة واعدة ضد نظام القذافي تحول اليوم إلى حرب تقترب من الحرب الأهلية وتحصد الأخضر واليابس، وتكرس حالة غير مسبوقة من التقسيم بين شرق البلاد وغربها. الغربيون يتحدون معارضي القذافي وكأنهم يقولون لهم: إننا لا نريد التدخل عن طريق القوات البرية، نزولا عند رغبتكم، وسوف نكتفي بضرب قوات القذافي جوا. وقد مضى أكثر من شهرين على هذا التدخل وما تزال الأمور على عواهنها. ولا يستبعد أن تأتي اللحظة التي يرى فيها زعماء الثورة ضرورة التدخل الغربي برا لإنقاذ الموقف وإسقاط نظام القذافي. أما وفق المعايير الحالية، فقد استعاد معمر القذافي شيئا من قوته، وأصبح هناك توازن في الرعب بين الطرفين، وتحولت القضية من ثورة شعبية إلى احتراب داخلي، وأصبح الطرفان خاضعين لابتزاز قوى الثورة المضادة التي تسعى لهندسة مرحلة ما بعد القذافي. فهي تريد رحيل القذافي بشروط تضمن بقاء ليبيا ضمن فلكها. وهذا يتم بتخيير الثوار بين الانصياع لشروط قوى الثورة المضادة أو تحول الوضع إلى حرب أهلية. وما يحدث في اليمن مشابه لذلك أيضا. فمع أن الثورة ما تزال متواصلة، من خلال الحضور الجماهيري في الشوارع للتظاهر والاحتجاج اليومي ضد حكم علي عبد الله صالح، إلا أن قوى الثورة المضادة تدخلت بجناحها العربي المتمثل بمجلس التعاون، لفرض حل يحمي علي عبد الله صالح من طائلة القانون لكي لا يتعرض لما تعرض له حسني مبارك ونجلاه من سجن ومحاسبة ومحاكمة. الثوار رفضوا ذلك، فتم تهديدهم بتحويل الثورة إلى حرب أهلية. واليمن مستعد لحرب من هذا النوع نظرا لوفرة السلاح وتعدد التوجهات السياسية والإيديولوجية بين المجموعات المجتمعية والسياسية في اليمن. وبرغم وعي الشعب وإصراره على الاستمرار في المطالبة بالحرية والتخلص من حكم علي عبد الله صالح، فان تأجيج الوضع لا يحتاج سوى لبضع طلقات لكي ينفجر ويتحول إلى حرب أهلية.

 

إزاء هذه الثورة المضادة التي يزداد خطرها يوما بعد آخر، والتي تتزعمها السعودية بالمال والفتوى والتصدي المباشر لوأد الثورات، ما الذي يمكن عمله لإنقاذ ما تبقى من روح النقاء الثوري في الشارع العربي؟ ثمة أمور عديدة يقتضي الأخذ بها وتوفير الأرضية لبعضها، لقلب الطاولة على رؤوس عناصر الثورة المضادة. أول هذه الأمور رفض التمييز بين الثورات العربية، فجميعها انطلق بهدف واحد يتمثل بإسقاط أنظمة الحكم البالية التي فشلت في تطوير نفسها أو مواكبة التطور السياسي والعلمي، وعلى أرضيات متشابهة من الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي وتغييب الحريات العامة. ثانيها: رفض التدخل الغربي العسكري المباشر في أي من البلدان، جملة وتفصيلا. فهذا التدخل يزيد الوضع تعقيدا ولا يضمن سلامة النتيجة. ثالثها: دعم الثورات الشعبية بعضها بعضا، لإفشال المخطط السعودي المؤسس على بذل المال النفطي بمعدلات غير مسبوقة، وإضفاء السمة الدينية على ذلك كله بتوجيه المؤسسة الدينية على طريق ذلك. رابعها: التواصل بين القطاعات المجتمعية الراغبة في التغيير بشكل منتظم لكي يتحدث الناس بنغمة واحدة وفق أجندة واضحة المعالم والأهداف. خامسها: عدم القبول بأنصاف الحلول، فالحالة الثورية ليست ظاهرة إصلاحية فحسب، بل تتجاوز ذلك لتكون عنوانا لمسيرة الأمة وإيقاظ شعوبها وتحريرهم من إرهاب الدولة وهيمنة الغرب وإضعاف إرادة المواطنين.

 

هذه عناوين شتى، لكنها مرتبطة بسياق واحد. أن قوى الثورة المضادة مستعدة للتضحية بالوئام الاجتماعي والزج بالقوى الثورية في أتون الحروب الأهلية الطاحنة، ما دامت ترفض إخضاع مشروعها الثوري للإرادتين السعودية والأمريكية، وما دام روادها يرفعون شعار التغيير من أجل الديمقراطية. هذه الحقائق لا يمكن دحضها بتصريح هنا، أو آخر هناك. فهي حقائق يلمسها المواطنون على الأرض، وليس هناك حاجة سوى لزيارة ميادين الثورة في هذه البلدان للاطلاع على ما تدعيه السلطات من (تخريب) ليتضح عمق العداء الرسمي والدولي لهذه التحركات الساعية لإصلاح أوضاع بلدانها بعد عقود من الاستبداد والديكتاتورية والفساد المالي والإداري. الأمر المثير للاستغراب هذا الصمت المروع من قبل النخب المثقفة وعلماء الدين، والاستعداد لدى الكثيرين لمسايرة الظلم والقمع ومساندة الطغيان في مقابل السلامة الشخصية وتحقيق بعض المكتسبات المادية على حساب القيم والأخلاق. إن التغيير مطلوب، وسوف يتحقق، ولكن السؤال: بأي ثمن؟ لقد قالت الشعوب كلمتها واستعدت للتضحية، مقتنعة بأن الثمن المدفوع، مهما كان باهظا، سيكون أقل كثيرا من استمرار الوضع الاستبدادي القاتل. لذا قررت الانطلاق آملة بالنصر والتغيير، وعلى الجميع أن يقرر موقفه: مع الثورة؟ أم الثورة المضادة؟

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة