Skip to main content

حتى النصر الكامل وعودة المقدّسات

التاريخ: 10-11-2008

حتى النصر الكامل وعودة المقدّسات

السيد حسن نصر الله: المقاومة متأهبة حاضرة برؤية واضحة وعزم ثابت وتقدير ناجز للمهمة التالية   مقدمة كتاب «صفحات عز» بقلم الأمين العام لحزب الله حجة الإسلام والمسلمين سماحة السيد حسن نصر الله   لن يسدل أيّار 2000 ستاراً على آخر صفحات العز في كتاب الأمة، فإنما توافر له أن يملي كلماته على أوراق الصراع الراهنة والقادمة، بحيث يمكن تمثّل معانيه والنسج على منواله، هو حقاً إحدى المآثر التي طالما انتظرها الأجداد واستعد لها الآباء وتحفّز لها الأبناء، حيلاً بعد جيل، وجرحاً بعد جرح، ونكسة بعد نكبة، لكنّه أيضاً اللحظة الموعودة للرد على أسئلة الحاضر ومرارات الماضي، لوصل ما انقطع واستعادة ما فات، وجمع شتات ما تفرق

السيد حسن نصر الله: المقاومة متأهبة حاضرة برؤية واضحة وعزم ثابت وتقدير ناجز للمهمة التالية

 

مقدمة كتاب «صفحات عز» بقلم الأمين العام لحزب الله حجة الإسلام والمسلمين سماحة السيد حسن نصر الله

 

لن يسدل أيّار 2000 ستاراً على آخر صفحات العز في كتاب الأمة، فإنما توافر له أن يملي كلماته على أوراق الصراع الراهنة والقادمة، بحيث يمكن تمثّل معانيه والنسج على منواله، هو حقاً إحدى المآثر التي طالما انتظرها الأجداد واستعد لها الآباء وتحفّز لها الأبناء، حيلاً بعد جيل، وجرحاً بعد جرح، ونكسة بعد نكبة، لكنّه أيضاً اللحظة الموعودة للرد على أسئلة الحاضر ومرارات الماضي، لوصل ما انقطع واستعادة ما فات، وجمع شتات ما تفرق.

 

ولعلّ في واقعة النصر والتحرير ما يطرح جانباً دعاوى انغرست في أعماق الوعي فانتهكت الوجدان واغتالت الروح، دعاوى قيل معها أن الأمة تعيش عصر انحدارها، وأن من عواقب هذا الانحدار المحتومة الفشل والتفكك والهزيمة، قيل أيضاً أن قدرها أن تظل فريسة، بلا حول ولا حيلة، في الحرب كما في السلم، في الداخل كما في الخارج، في السياسة كما في التنمية، في العلم كما في الثقافة، حتى سها عن الأذهان أن همّة أمة من الأمم في الكفاح العادل وحفظ الكرامة وصون الهويّة، هي أعلى من المعايير التي تشير إلى أهليّتها في اقتحام ميادين الحياة وبلوغ أهدافها الكبرى، وتخطي محنها وتخلفها وهوانها. أوليس أمر الإصلاح منوط بتلك النفوس المتجرّدة، والأفئدة النقيّة التي تجعل من الثائر عصيّاً على المآرب والأثمان البخسة؟ أوليس أمر التقدّم في سبل الحياة والسعي في مناكبها موكل إلى مثل تلك الروح لمتوثّبة المبادرة، التي تصرف المجاهد في سبيل الله عن سقط الزاد، إلى جناه الأوفر وفوزه الأكبر في الدنيا أو في الآخرة؟

 

بعد أيّار لن يسأل مجاهد عن دمه، ما إذا كان صالحاً لملاقاة تحديات هذا الزمن ومواجهة متغيّراته وفتنه... بعده لن تكال لطالب حقّ مهما كان قليل العتاد يسير المؤونة، نعوت المبالغة والتنكر لمنطق الأحداث، لو أراد حقه ناجزاً مبرماً، حيث يراد له وللمبادئ والقيم، التردد والنسبيّة والتقلّب.. بعد موعد النصر، الذي ضربه فيه روّاد أوائل، ثلّة قليلة، ولاقاه ذلك الجمع الناهض من سني المعاناة والقهر والأسر، بشجاعة جماعيّة قلّ نظيرها، سيصبح للمستقبل معنىً آخر، وللماضي معنىً مختلف.. سيصير الحاضر مركباً للأمل في مستقبل متغيّر ومتجدد، تؤسسه خطى واثقة، على قدر الثقة بالله والنفس والتراث والأرض، حسب هذا الغد المرتقب، أن ينفض غبار السنين عن معدن الأمة النقي وقد حجبته أربعة وخمسون عاماً من الاغتصاب والأسر، أن يطوي ظلام تلك الحقبة المدلهمّة لولا أحزمة نور لمضحّين وشهداء، في أربع رياح هذا الوطن العربي والإسلامي، وعلى مدى عهوده وأعوامه.. وسيعود الماضي منبتاً للإلهام ومدرسة تدبّر وعبرة، بل محلاً لاقتباس الأصل الذي أعطى المسلمين والعرب مكانتهم الفريدة وحضارتهم الإنسانية الرحبة، وعنفوانا ًباسلاً مكّنهم من قهر ممالك الظلم والضلال والتخلّف، ومن انتقاء أفضل ما في الآخر، ومن رفع رايات للعزة والتألق وحسن المعاملة، لا أن يظل هذا الماضي منبتاً للعصبية والفرقة والتناحر والخصومة، ونفي الذات واستباحة المجتمعات والأوطان، ومئلاً لتشريع الفتن والأهواء والغايات المرذولة والجهل وقصر النظر وتحسين صورة القهر والاستبداد.

 

ثمانية عشر عاماً وقافلة الجهاد تسير غير متريّثة ولا مترددة، ولطالما حفّت بها المخاطر واشتدّت من حولها المحن وعصفت في طريقها الأهواء، فما سئمت درب كفاحها، ولا مالت إلى دعة أو سكينة، أو صرفها عن عظيم أهدافها ما انطوى عليه زمنها من مسالك وأغراض تزيّن أمرالانكفاء وتوحي بتنكّب السبيل أو تغري بالمغانم والمكاسب، حتى قيل إنها شجاعة لكن لا علم لها بالسياسة. وريثما أدركت أول أهدافها وأثبتت رجاحة مقولتها وخيارها، وتمايز صدقها بين دعاوى زائفة اتسعت قاعدتها وتزايد روّادها وانتصر لها وطن بأكمله، وباتت تضحياتها جزءاً من نظام حياته، ومقوّماً للسياسة فيه، وبعض مفاهيم المجتمع الذي صارت منه رابطة انتماء ومصدر ثقة بالذات والمصير، ولم يبخل عليها أبناؤه بنفس أو فلذة كبد او مال أو متاع، فغدت أهدافها المقدّسة محوراً تدور حوله الوقائع ومحطة لا يحيد عنها عابر إلى أي قصد.

 

هكذا آن للمقاومة أن تحقّق فاتحة انتصاراتها، وأوّل أمجادها، بتآلف أهلها، بتضامن شعبها، بتماهيها مع الوجدان العام حتى باتت صورته والمعبّر عنه، بحسن تمثيلها لآمال مجتمعها دون غسقاط ولا إرغام أو فرض، بالمزج بين البطولة والمعرفة، باتخاذ الإيمان مدداً إلى الغاية وسبباً إلى إسباغ روح إنسانية خالصة ونقيّة، بابتعادها عن الفرقة والخصومة وما يضيّع الطاقات ويبدد الجهود، بقدرتها على استثمار كل ما هو متوافر من عناصر قوّة وفعل في بيئتها دون استثناء أو تمييز.. وقد أحسنت هذه المقاومة فهم ذاتها، وأحسنت في الوقت نفسه معرفة عدوّها، وهما أمران لازمان للنجاح في مضمار التحدّي، فكانت على مسافة محسوبة من الإفراط أو التفريط، من الاستخفاف بالعدو أو التخاذل في وصف قوّته، من استضعاف الذات إلى حد العجز أو المبالغة في تضخيمها. ثم إنها احسنت التمييز بين أهدافها البعيدة والقريبة، وآمنت دائماً أنّ بوسعها رسم خط فاصل، بين الممكن في يوم والممكن في يوم آخر، وعرفت كيف تتدبّر خطتها بحيث تبطل بأناة وجلد مستحيلات الحقبة المنصرمة، وتعيد إلى مسرح الصراع قواعد ومفاهيم، عمل على استبعادها، وتشتيتها وطيّ صفحتها.

 

وها هي المقاومة الإسلامية، تصوغ المستقبل بالحاضر، كما رسمت حاضرها بشيء من الماضي، ومن مزيج كهذا، تطل مفخرة طيّبة، وأمل متجدد بأن يكون للوطن مكان بين الأوطان، وللمة مكانة بين الأمم، وبأن يتّسع الأفق أمام تطلعات رحبة، تعيد تنظيم قواعد هذا الصراع، بما يتلاءم مع منطق التاريخ، وتنأى بالأجيال الجديدة عن أن ترزح تحت الوان القهر والخوف والإخفاق، كالتي أطاحت بآمال أجيال سابقة، فأحالتها إلى لامبالاة أو سخط أو انسحاب من معترك صناعة الغد.

 

وأمامنا اليوم أكثر من دليل على أن ليلنا الطويل إلى نهاية، وأن مشاعر خلاقة تنبعث وتنتشر، ترسّخ حسّ المبادرة والقدرة على الفعل ومجابهة التحدي وإدراك الغايات، وتحلّ مكان تلك الأحاسيس المزمنة وغير المبررة، بالعجز والهزيمة المبرمة، والخضوع إلى القدر، وما هذا الخضوع في واقعه إلا استسلام لأسياد العالم، الذين لا يرون لضعيف أو متخاذل استحقاقاً، بينما يحظى بأثمن الأدوار، الأشدّ بأساً وبطشاً. وما كان هذا النصر إلا أولى إشارات انبثاق تلك الروح الجديدة، وعلامة على الطريق، وتحقيقأ لمثال يصحّ القياس عليه في الاستكمال أو الإستئناف.

 

وعلى أعتاب الفصول الآتية التي نحسبها حافلة مؤثرة، وأمام انعطافة تاريخية تجتمع أسبابها في أفق صراع الوجود هذا، تقف المقاومة متأهبة حاضرة، برؤية واضحة وعزم ثابت، وتقدير ناجز للمهمة التالية، لن تتراجع عن تحرير ما تبقى من أرض هذا الوطن العزيز المترفع على الجراح، ولن تفرّط برصيد جهادها، بل ستضيفه إلى رصيد الأمّة، فتقدّم نصرها ذخيرة لأولئك المغروسين في عمق القضيّة، الشاهدين بدمهم وعذاباتهم وقهرهم على الوجهة والمسار، وقد أبوا الدخول في زمن التسويات السهلة، ولا زالوا مطمئنّين إلى أنّ الزمن هو زمن الكفاح، زمن القدس وكلّ فلسطين.

 

لم يكن لهذا العام أن يطوي إلى غير رجعة حقبة الاحتلال، لولا هؤلاء الذين غادروا دون تردد ليل الهزيمة، تناسوا آلامهم وقلة عدّتهم وعديدهم، بحثوا عن بقيّة نهار وأطياف نور في أروقة الغربة والدهاليز المعتمة، يصنعون من أشتاتها فجرأ صادقأ ومجيدأ، ويستلهمون دروس الفداء والتضحية والإيمان، من ومضات حسّنت وجه التاريخ، ولحظات إلهيّة، أتاحت للإرادة العزلاء أن تغلب جبروت القوّة، أن تكسر بالدم حدّ السيف؛... لقد مضوا إلى كربلائهم، يتلمسون أثراً لحسين، لا يلوون على شيء من ترغيب الدنيا أو ترهيبها، أرادوا كما الإمام الشهيد (ع)، أن يجعلوا الموت سبباَ للحياة، أساساَ للنهوض والإصلاح، وطريقأ إلى عالم مختلف، مليء بالقسط والعدل، وممهّدأ لدولة العدل المنتظرة.

 

ولم يكن بوسع تلك الآلاف المؤلّفة، أن تقتحم بلا تردد أو وجل حصون الاحتلال، ومعاقل الظلم والإرهاب، لولا تلك الدماء الزكية، التي سالت على مدى ثمانية عشر عاماً، في مجرى الغايات النبيلة، والأهداف المقدّسة، فما نضب معينها، ولا غار سلسلها، حتى أدركت إحدى الحسنيين، واستحثت مكنون الفداء والتضحية في كلّ قلب، ثمّ اتسعت دائرتها، وأزهر روضها الخصب، وزادها القتل والقتال غزارة وتدفقا.. ولولا الإمام الخميني المقدّس، الذي مزّق حجب الظلام والتبعية والانكسار، عن صبح المسلمين والمستضعفين، فأشاع من جديد حساً متجدّداً بامتلاك المصير، وتقديرا مرتفعا للذات، وربطاً فريداً بين الأرض والسماء، بين الدنيا والآخرة، لم يكن لمشهد المقاومة أن يولد وتكتب فصوله الخالدة، ولم يستمر هذا المشهد لولا رعاية الولي القائد الذي حمى المسيرة من أشدّ العواصف والمحن، وشدّ من عضدها، وأكّد إصرارها، ورعى ثباتها على نهجها وخطّها القويم.

 

والمقاومة الإسلامية التي أتمّت إحدى جولاتها، تعاهد ربها وأهلها ووطنها وأمّتها، أن تبقى على درب كفاحها إياه، بلا تردد ولا مساومة، حتى النصر الكامل وعودة المقدّسات، ونهاية جولة البغي والاغتصاب، وحتى يتمّ لها أن تضع لبنة متينة في صرح قيامة الأمّة ونهوض المستضعفين.

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة