الأربعون حديثاً: الحديث الثاني والعشرون الإنسان وكراهته للموت
التاريخ: 20-07-2011
ِالسّند المتّصلِ إلى ركنِ الإِسلامِ وَثِقَتِهِ محمَّد بنِ يَعْقوبَ الكُلَيْنيِّ، عن محمَّدِ بنِ يحيى، عن أحمَد بن محمَّدٍ، عن بعضِ أصحابِهِ، عنِ الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي عثمانَ، عن واصلٍ، عَن عبدِ الله بن سنان، عن أبي عبدِ الله عليه السّلام قال: «جاء رَجُلٌ إلى أبي ذَرٍّ فَقالَ: يا أبا ذَرٍّ ما لَنا نَكرَهُ المَوْتَ؟ فَقالَ: لأَنَّكُمْ عَمَّرْتُمُ الدُّنْيا وأَخْرَبْتُم الآخِرَةَ، فَتَكْرِهُونَ أَنْ تُنْقَلُوا مِن عِمْرانٍ إلى خَرابٍ، فَقَالَ لَهُ: فَكَيْفَ تَرى قُدُومَنا عَلَى الله؟ فَقالَ: أمَّا المُحْسِنُ مِنْكُمْ فَكَالغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أهْلِهِ، وَأَمَّا المُسِيءُ مِنْكُمْ فَكَالآبِقِ يُرَدُّ عَلَى مَوْلاَهُ
ِالسّند المتّصلِ إلى ركنِ الإِسلامِ وَثِقَتِهِ محمَّد بنِ يَعْقوبَ الكُلَيْنيِّ، عن محمَّدِ بنِ يحيى، عن أحمَد بن محمَّدٍ، عن بعضِ أصحابِهِ، عنِ الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي عثمانَ، عن واصلٍ، عَن عبدِ الله بن سنان، عن أبي عبدِ الله عليه السّلام قال: «جاء رَجُلٌ إلى أبي ذَرٍّ فَقالَ: يا أبا ذَرٍّ ما لَنا نَكرَهُ المَوْتَ؟ فَقالَ: لأَنَّكُمْ عَمَّرْتُمُ الدُّنْيا وأَخْرَبْتُم الآخِرَةَ، فَتَكْرِهُونَ أَنْ تُنْقَلُوا مِن عِمْرانٍ إلى خَرابٍ، فَقَالَ لَهُ: فَكَيْفَ تَرى قُدُومَنا عَلَى الله؟ فَقالَ: أمَّا المُحْسِنُ مِنْكُمْ فَكَالغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أهْلِهِ، وَأَمَّا المُسِيءُ مِنْكُمْ فَكَالآبِقِ يُرَدُّ عَلَى مَوْلاَهُ. قالَ: فَكَيْفَ تَرى حالَنا عِنْدَ الله؟ قالَ: اعْرَضوا أَعْمَالَكُمْ عَلَى الكِتَاب، إنَّ الله يَقولُ: (إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعيم. وإنَّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ). قال: فَقالَ الرَّجُلُ: فَأَيْنَ رَحْمَةُ الله؟ قالَ: رَحْمَة الله قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنينَ». قَالَ أبو عَبْد الله عليه السّلام: «وَكَتَبَ رَجُلٌ إلى أبي ذَرٍّ ـ رَضِيَ الله عَنْهُ ـ ، يَا أَبَا ذَرٍّ: أطْرِفْنِي بِشَيْءٍ مِنَ العِلْمِ. فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنَّ العِلْمَ كَثِيرٌ وَلكِنْ إنْ قَدَرْتَ أنْ لاَ تُسيء إلى مَنْ تُحِبُّهُ فَافْعَلْ. فَقالَ لَهُ الرَّجُلُ: وَهَلْ رَأَيْتَ أَحَداً يُسيءُ إلى مَنْ يُحِبُّهُ؟ فَقالَ لَهُ: نَعَمْ، نَفْسُكَ أَحَبُّ الأنْفُسِ إلَيْكَ فَإِذَا أَنْتَ عَصَيْتَ الله فقد أَسَأَت إلَيْهَا»[1].
الشرح:
إن الناس يختلفون كثيراً في كراهية الموت والخوف منه، كما أنهم يختلفون في مناشئ هذه الكراهية. وما ذكره أبو ذر رضوان الله تعالى عليه في الرواية المذكورة فهو مرتبط بالمتوسطين من الناس. ونحن نذكر إجمالاً موقف الناقصين والكاملين من الناس، تجاه الموت.
فلا بد أن نعرف بأن كراهتنا للموت، وخوفنا منه نحن الناقصين، لأجل أمر أشرنا إليه لدى شرح بعض الأحاديث المتقدمة، وهو أن الإنسان حسب فطرته التي فطرها الله سبحانه، وجبلّته الأصيلة، يحب البقاء والحياة، ويتنفر من الفناء والممات، وهذا يرتبط بالبقاء المطلق والحياة الدائمية السرمدية، أي البقاء الذي لا فناء فيه والحياة التي لا زوال فيها. إن بعض الكبار قد أثبتوا المعاد يوم القيامة مع هذه الفطرة التي تحب الحياة والبقاء، حسب بيان يوجب ذكره هنا الخروج عن المقصود. وحيث أن في فطرة الإنسان هذا الحب وذاك التنفر، فإنه يحب ويعشق ما يرى فيه البقاء، ويحب ويعشق العالم الذي يرى فيه الحياة الخالدة، ويهرب من العالم الذي يقابله. وحيث إننا لا نؤمن بعالم الآخرة، ولا تطمئن قلوبنا نحو الحياة الأزلية، والبقاء السرمدي لذلك العالم، نحب هذا العالم، ونهرب من الموت حسب تلك الفطرة والجبلة.
وقد ذكرنا سابقاً أن الإدراك والإذعان العقلي يختلف عن الإيمان والاطمئنان القلبي. نحن ندرك عقلا أو نصدق أحاديث الأنبياء تعبداً بأن الموت ـ الذي هو انتقال من النشأة النازلة المظلمة المُلكية إلى عالم آخر، عالم حياة دائمية نورانية، ونشأة باقية عالية ملكوتية ـ حق، ولكن قلوبنا لا تحظى بشيء من هذه المعرفة، ولا علم لها عن ذلك. بل إن قلوبنا قد أخلدت إلى أرض الطبيعة، والنشأة المُلكية ونعتبر الحياة هي هذه الحياة النازلة الحيوانية المُلكية، ولا نرى بقاء وحياة للعالم الثاني، عالم الآخرة، وعالم الحَيَوان. ولهذا نركن ونعتمد على هذا العالم ـ المادي ـ ونخاف ونهرب ونتنفر من ذلك العالم ـ عالم الآخرة ـ. إن كل شقائنا هذا من وراء النقص في الإيمان بيوم القيامة ومن عدم الاطمئنان بعالم الآخرة. لو أننا آمنا بعالم الآخرة والحياة الأبدية، عُشْر اطمئناننا بالحياة الدنيوية وعيشها، وعُشر إيماننا بحياة هذا العالم وبقائه، لتعلقت قلوبنا بذلك العالم أكثر ولعشقناه، ولسعينا قليلاً في إصلاح الطريق وترميمه. ولكن المؤسف أن إيماننا بالآخرة قد نضب في القلب، وأن يقيننا متزلزل، فنضطر إلى أن نخاف من الموت والفناء والزوال. وعليه ينحصر العلاج الحاسم في إدخال الإيمان إلى القلب عبر التفكير والذكر النافع والعلم والعمل الصالح.
وأما خوف وكراهة المتوسطين، للموت، أي الذين لا يؤمنون بعالم الآخرة، فلأن قلوبهم انشدّت إلى تعمير الدنيا، وغفلت عن تعمير الآخرة، ولهذا لا يرغبون في الانتقال من مكان فيه العمران والازدهار إلى مكان فيه الدمار والخراب. كما ذكر ذلك أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه. وهذا أيضاً ناتج من نقص في الإيمان والاطمئنان. وأما إذا كان الإيمان كاملاً، فلا يسمح الإنسان لنفسه أن يشتغل بأموره الدنيوية المنحطة ويغفل عن بناء الآخرة.
وملخص الكلام أن كل هذه الوحشة والكراهية والخوف، تكون نتيجة بطلان أعمالنا واعوجاج سلوكنا ومخالفتنا لمولانا، في حين أنه إذا كان نهجنا صحيحاً وكنا نقوم بمحاسبة أنفسنا لما استوحشنا من الحساب يوم القيامة، لأن الحساب هناك عادل، والمُحاسب يكون عادلاً، فخوفنا من الحساب لأجل سوء أعمالنا وتزويرنا واحتيالنا، وليس من الحساب نفسه.
ففي الكافي الشريف نسبة ـ إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السّلام قال: «لَيْسَ مِنّا مَنْ لَمْ يُحَاسِبْ نَفْسَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَإنْ عَمِلَ حَسَناً اسْتَزَادَ الله وَإنْ عَمِلَ سَيِّئاً اسْتَغْفَرَ الله مِنْهُ وَتَابَ إِلَيْهِ»[2].
فلو تحملنا محاسبة أنفسنا، لما واجهنا صعوبة في موقفنا يوم الحساب، ولما دخل علينا الخوف والفزع. وهكذا كل المهالك والمواقف في ذلك العالم نتيجة أعمالنا في هذا العالم.
مثلاً: إذا انتهجت في هذا العالم صراط النبوة، والطريق المستقيم للولاية، ولم تنحرف عن محجة ولاية علي بن أبي طالب عليه السّلام، ولم تنزلق أقدامك، لما كان عليك بأس حين اجتيازك إلى الصراط يوم القيامة. لأن حقيقة الصراط هي الصورة الباطنية للولاية. كما ورد في الأحاديث الشريفة أن أمير المؤمنين عليه السّلام هُوَ الصِّرَاطُ. وفي حديث آخر: نَحْنُ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيم[3] وفي الزيارة المباركة الجامعة الكبيرة «أَنْتُمُ السَّبيلُ الأَعْظَمُ وَالصِّرَاطُ الأَقْوَمُ»[4]. فمن كان على هذا الصراط مستقيماً في حركته في الحياة الدنيا، ولم يضطرب قلبه لما اضطربت أيضاً أقدامه على الصراط في الحياة الآخرة، وإنما يجتازه كالبرق الخاطف. وهكذا إذا كانت أخلاقه طيبة، وملكاته مستقيمة ونورانية، لكان في مأمن من ظلمة القبر ووحشته، وعالم البرزخ ومخاوفه، وعالم القيامة وأهوالها، ولم يكن عليه خوف من تلك النشآت. فعليه يكون الداء منا والدواء أيضاً منا. كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في الأبيات المنسوبة إليه:
دَواؤكَ فِيكَ وَمَا تَشْعُرُ وَدَاؤُكَ مِنْكَ وَمَا تُبْصِرُ
وفي الكافي الشريف بسنده إلى الإمام الصادق عليه السّلام أنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ: «إنَّكَ قَدْ جُعِلْتَ طَبِيبَ نَفْسِكَ، وَبُيِّنَ لَكَ الدّاءُ، وَعُرِّفتَ آيَةَ الصِّحَّةِ، وَدُلِلْتَ عَلَى الدَّواءِ، فَانْظُرْ كَيْفَ قِيَامُكَ عَلَى نَفْسِكَ» [5].
أيها الإنسان فيك أعمال وأخلاق وعقائد فاسدة، وتكون رسالات الأنبياء وأنوار الفطرة والعقل، وأدويةً ناجعةً، ويتم إصلاح النفوس بالسعي في تزكيتها وتصفيتها.
هذا تمام الكلام في حال المتوسطين. وأما الكُمّلون، والمؤمنون المطمئنون، فإنهم لا يكرهون الموت ولكنهم يستوحشونه ويخافونه، لأنهم يخشون عظمة الحق المتعالي، وجلال ذاته المقدس، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «فَأَيْنَ هَوْلُ المُطَّلَعِ؟» وكما كان أمير المؤمنين عليه السّلام ليلة التاسع عشر من شهر رمضان مندهشاً دهشة عظيمة وفزعاً، رغم أنه كان يقول: «وَالله لابْنُ أبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالمَوْتِ مِنَ الطفلِ بِثَدْي أُمِّه»[6].
وملخص الحديث أن خوف هؤلاء يكون من أمور أخرى، ولا يكون من نوع خوفنا نحن المصفدين بالآمال والأماني، والمحبين للدنيا الفانية. وإن قلوب أولياء الله من جرّاء الخوف في منتهى الاختلاف فيما بينها حتى لا يمكن عدّ المراتب المختلفة وإحصائها. ونحن نشير إلى بعضها بصورة مجملة فنقول:
إن قلوب الأولياء تختلف فيما بينها في قبول تجليات الأسماء: فبعضها قلوب عشقية وشوقية وأن الحق المتعالي يتجلّى في تلك القلوب من خلال أسمائه الجمالية، وذاك التجلي، يبعث على الشوق والخوف، فإن الخوف يكون من مضاعفات تجلّي عظمته سبحانه. وإن قلب الواله العاشق يكون مضطرباً حين اللقاء مع حبيبه، وفي نفس الوقت يكون مستوحشاً وخائفاً ولكن هذا الخوف والاستيحاش يختلفان عن المخاوف العادية.
وبعضها قلوب خوفية وحزينة، وأن الحق المتعالي يتجلى في تلك القلوب بواسطة الأسماء الجلالية والعظمة، فيحصل الوَجْد والحب الشديد المشوب بالخوف، والحيرة المشوبة بالحزن. وفي الحديث أن النبي يحيى عليه السّلام رأى يوماً النبي عيسى عليه السّلام يضحك، فعاتبه قائلاً: أتأمن مكر الله وعذابه، فأجاب عيسى عليه السّلام: أأنت آيس من رحمة الله وفضله؟ فأوحى الله سبحانه إليهما من كان منكما يحسن الظن بي أكثر فهو محبوب عندي أكثر.
فلمَّا تجلّى الحق المتعالي في قلب يحيى عليه السّلام من خلال الأسماء الجلالية كان يحيى خائفاً، ومؤنباً للنبي عيسى عليه السّلام بتلك الشدة. ولكن الحق قد تجلّى بأسمائه الجمالية في قلب عيسى عليه السّلام فأجاب عيسى يحيى حسب تجلّيات الرحمة.
فصل: الجنة والنار عالمان مستقلاّن، تساق إليهما أعمال الإنسان
إعلم أن الظاهر من هذا الحديث ـ الثاني والعشرين ـ عندما يقول: «عَمَّرْتُمُ الدُّنْيَا وَأَخْرَبْتُمُ الآخِرَةَ» أن دار الآخرة والجنة مشيدة وقائمة، وتتهدم بأعمالنا. ومن الواضح أن المقصود ـ من قوله عمرتم الدنيا وأخربتم الآخرة ـ هو التشابه في التعبير، فإنه لما عبّر عن الدنيا بالتعمير عبر عن دار الآخرة بالتخريب. وإن عالم الجنة والنار وإن كانا مخلوقين، ولكن تعمير دار الجنة ومواد بناء جهنم تابعة لأعمال أهل كل منهما. وفي الحديث «يا محمد اقرأ أمتك عني السلام وأخبرهم أن الجنة ماؤها عذب وتربتها طيبة، فيها قيعان بيض غرسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله فمر أمتك فليكثروا من غرسها»[7]. وهذا يتطابق مع البرهان وكشف أهل المكاشفة. كما يقول بعض العرفاء المحققين: (اعلم ـ عصمنا الله وإياك ـ أن جهنم من أعظم المخلوقات، وهي سجن الله في الآخرة. وإنما سمّيت بجهنم لبعد قعرها حيث يقال لبئر بعيد الغور والعمق بئر جهنام. وهي تحتوي على حرارة وزمهرير ـ البرودة ـ وتكون برودتها في أقصى درجات البرودة، وحرارتها في أقصى درجات الحرارة، وتعتبر المسافة بين أعلاها وأسفلها مسيرة سبعمائة وخمسين عاماً. والناس اختلفوا في أن جهنم مخلوقة أم غير مخلوقة وكان الخلاف في ذلك مشهوراً. كما أنهم اختلفوا في أن الجنة مخلوقة أم غير مخلوقة. أما عندنا وعند أصحابنا من أهل المكاشفة والمعرفة فإن الجنة وجهنم مخلوقتان وغير مخلوقتين أما إنهما مخلوقتان فإن مثلهما، مثل رجل بني بيتاً وأقام الجدار الخارجي حيث يقال له بيت، ولكننا عندما ندخل لا نجد شيئاً إلاّ سوره وحائطه الذي يصون البيت من الخارج، ولكن بعد ذلك يُشيّد البيت حسب طلب الساكنين من بناء الغرف والمرافق والملاجئ وحسب هدف صاحب البيت وما ينبغي أن يكون فيه. انتهى).
وفي الحديث قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قيعان ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضة وربما أمسكوا فقلت لهم: ما بالكم قد أمسكتم. فقالوا: تجيئنا النفقة. فقلت: وما نفقتكم؟ قالوا قول المؤمن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإذا قال بنينا إذا سكت أمسكنا) [8].
وخلاصة الحديث أن صورة الجنة وجهنم الجسمانيتين الماديتين هي صور الأعمال والأفعال الحسنة والسيئة لبني آدم حيث تعود إليهم يوم الآخرة كما أن الآيات الشريفة قد أشارت إلى ذلك مثل قوله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾[9].. وقوله: ﴿إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ تُرَدُّ إلَيْكُمْ﴾[10]. ومن الممكن أن يكون عالم الجنة وعالم جهنم نشأتين ودارين مستقلين يتحرك إليهما بالحركة الجوهرية، والدوافع الملكوتية والحركات الإرادية العملية والخُلقية. وإن كانت حظوظ كل الناس من صور أعمال أنفسهم.
وعلى أي حال فإن عالم الملكوت الأعلى عالم الجنة الذي هو عالم مستقل تساق النفوس السعيدة إليه. وعالم جهنم هو الملكوت السفلي الذي تساق إليه النفوس الشقية. وما يعود إلى الإنسان من كل من النشأتين من الصور البهية الحسنة أو الصور المؤلمة المدهشة فهي أعمال نفس الإنسان.
وبهذا البيان نجمع بين ظواهر الكتاب والأخبار المختلفين بحسب الظاهر. كما أن هذا البيان يوافق البرهان ومسلك ذوي العرفان أيضاً.
فصل: الشيطان والنفس تغرران بالإنسان إلى الهلاك بكل الوسائل
لا يخفى أن حديث أبي ذر رضوان الله تعالى عليه في هذا المقام، حديث جامع، وكلام متين، لا بد من المحافظة عليه، فإنه لما قال: اعرضوا أعمالكم على الكتاب الكريم حيث يقول: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾. تمسك الرجل بالرحمة قائلا: فأين رحمة الله؟ قال أبو ذر لا تكون رحمة الحق من دون قيد ولا شرط بل هي قريبة من المحسنين.
اعلم أن الشيطان الملعون، والنفس الأمارة بالسوء الخبيثة، يغرران الإنسان عبر طرق كثيرة، ويقودانه إلى الهلاك الأبدي الدائمي، وآخر وسيلة يلتجآن إليها، هي تغرير الإنسان في بدء الأمر برحمة الحق سبحانه، ومنعه بذلك عن المضي في العمل الصالح، وهذا الاتكال على الرحمة من مكائد الشيطان وأساليب تضليله. والدليل على ذلك أننا في قضايانا الدنيوية، لا نعتمد على رحمة الحق سبحانه بل نرى العوامل الطبيعية والظاهرية، مستقلة ومؤثرة بدرجة كأنه لا أثر في الوجود إلا للأسباب الظاهرية. ولكننا في الأمور الأخروية نتكل غالباً حسب زعمنا على رحمة الحق سبحانه، ونغفل عن توجيهه لنا وتوجيه رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، فكأنّ الله لم يزودنا بالقدرة على العمل، ولم يعلّمنا سبيل الصواب، والاعوجاج.
وخلاصة الكلام نكون في شؤوننا الدنيوية من المفوضة، وفي شؤوننا الأخروية من الجبريين، غافلين عن أن هذين المسلكين باطلان وفاسدان ومخالفان لإرشاد الأنبياء صلّى الله عليهم، ومنهج أئمة الهدى، والأولياء المقربين. مع أنهم كانوا جميعاً يؤمنون برحمة الحق وكان إيمانهم أكثر من الآخرين. رغم ذلك كله، لم يغفلوا لحظة واحدة عن أداء واجبهم، ولم يتوقفوا عن السعي وبذل الجهد دقيقة واحدة.
أخي ادرس صحائف أعمالهم: أدعية ومناجاة سيد الساجدين وزين العابدين عليه السلام وتدبّر أنه ماذا كان يفعل في مقام العبودية؟ وكيف كان ينهض بدور العبودية؟ ومع ذلك عندما يلقي ـ الإمام السجّاد ـ نظرة على صحيفة مولى المتقين، أمير المؤمنين عليه السّلام، يبدى أسفه، ويظهر عجزة !
فنحن إما أن نكذبهم ـ نعوذ بالله ـ ونقول بأنهم لم يطمئنوا ولم يؤمنوا برحمة الحق سبحانه، مثلما أننا لم نؤمن ولم نطمئن برحمته عز وجل. أو نكذّب أنفسنا، ونفهم بأن هذه الأقوال التي نتفوّه بها من مكائد الشيطان وإغراءات النفس، حيث
يريدان تضليلنا عن الصراط المستقيم. نعوذ بالله من شرهما.
فيا أيها العزيز، كما قال أبو ذر للرجل: إن العلم كثير، ولكن العلم النافع لأمثالنا أن لا نسئ إلى أنفسنا ونعرف بأن أوامر الأنبياء والأولياء عليهم السّلام تكشف عن حقائق نحن محجوبون عنها. إنهم يعلمون بأن للأخلاق الذميمة والأعمال السيئة، صوراً بشعة وثماراً فاسدة، وأن للأعمال الحسنة والأخلاق الكريمة صوراً جميلة ملكوتية. إنهم حدثونا عن كل شيء عن الدواء والعلاج وعن الداء والسقم. فإذا كنت عطوفاً على نفسك، فلا بد وأن لا تتجاوز هذه الإرشادات لتداوي ألمك، وتعالج مرضك. الله يعلم أنه إذا انتقلنا مع ما نحن عليه الآن إلى ذلك العالم، فبأي مصائب وآلام ومعاناة سوف نبتلي؟ وَالْحَمْدُ للهِ أَوَّلاً وَآخِراً.
ـــــــــــــــــ
[1] أصول الكافي المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب محاسبة العمل، ح 20.
[2] أصول الكافي ـ المجلد الثاني ـ كتاب الإيمان والكفر، باب محاسبة العمل، ح 2.
[3] وتفسير البرهان ج1 ح 3 ح25 ص 46، ص 51.
[4] زيارة الجامعة الكبيرة الموجودة في معظم كتب الأدعية والزيارات.
[5] أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب محاسبة العمل، ح 6.
[6] نهج البلاغة الخطبة 5 (الشيخ صبحي الصالح).
[7] أمالي الصدوق ص 366 المجلد 69.
[8] بحار الأنوار، المجلد 18، ص 292.
[9] سورة الكهف، آية: 49.
[10] علم اليقين، المجلد 2، ص884.

احدث الاخبار
العميد جلالي: بنيتنا التحتية الصاروخية تحت الأرض سليمة ولم تمس
برّ الوالدين في سيرة أهل البيت عليهم السلام
خطيب جمعة طهران: صمود المقاومة الإسلامية هو ثمرة التأسي بمدرسة القرآن الكريم
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية