موقع الإمام الخميني وولاية الفقيه في المذهب الشيعي
التاريخ: 24-11-2008
موقع الإمام الخميني وولاية الفقيه في المذهب الشيعي المقدمة
موقع الإمام الخميني وولاية الفقيه في المذهب الشيعي
المقدمة.. التاريخ والفرضية:
استقرار الإمام الخميني بمحل قائد الجمهورية الإسلامية في إيران وتوليه المتزامن لمقامي «المرجعية» و«ولاية الفقيه»، وضع الفقه السياسي الشيعي أمام قضية حديثة عليه لم يعرفها من قبل. والقضية كالتالي:
ظهور مؤسسة المرجعية بشكلها الحديث (المقتدر والمتمركز) كان حصيلة الزوال لمؤسسة السلطنة المتدرج في نهاية العصر الصفوي، فخلافا لما يعتقده البعض فإن دخول إيران للعصر الحديث و«الحقبة الحديثة» من تاريخها لم يكن في مرحلة «الملكية الدستورية»، بل علينا إرجاع جذور الحداثة الإيرانية لسقوط أصفهان (عاصمة الحكم الصفوي). أي فيما يعد حادث سقوط الدولة الساسانية نهاية «الحقبة القديمة» لتاريخ إيران، سقوط الدولة الصفوية أيضا يعد نهاية مرحلة «الحقبة الوسطى» لتاريخ إيران. وبعد ذلك وبالتزامن مع الثورات السياسية والفكرية الأوروبية، بدأت التحولات السياسية والفكرية في إيران وظهرت بوادر الحداثة مع ظهور الحكم البنابارتي (حكم نادر شاه الأفشاري) إلى وقوع الثورات السياسية (ثورة الملكية الدستورية) في إيران.
لكن إحدى أهم هذه البوادر تحظى باهتمام جدير، وبحجة محتواها التقليدي غض النظر عن موقعها الحديث: وهي تحولات المؤسسة الدينية الشيعية، فهذه المؤسسة في مرحلة ما قبل السلالة القاجارية كانت تعد مؤسسة حكومية من المنظور السياسي ومؤسسة تقليدية من المنظور الفكري.
تقي شيخ الإسلام
فسياسيا كان الملك هو الذي يعين أعلى مقام ديني في البلد، الذي كان يسمى آنذاك «شيخ الإسلام». ومع أن «الشاه طهماسب» الصفوي كان يسمي نفسه «نائب المحقق الكركي» (المرجع الأعلى آنذاك) ولكن بعد استقرار الحكم الصفوي وخاصة بعد سلطنة «شاه عباس»، كان الملك هو من يعين «شيخ الإسلام» في البلاد.
وفكريا، العصر الصفوي كان يعد عصر نمو النزعة الإخبارية. علماء الشيعة الكبار في أصفهان كانوا من أتباع النص والنقل ولم يكترثوا كثيرا للعقل والتأويل والتفسير، فالحضور المشهود للصوفية في الديوان الصفوي (الذي كان يفتخر بانتسابه لأحد أقطاب الصوفية) ونزعتهم التأويلية، وبروز فلاسفة مثل صدر المتألهين الشيرازي وكانت من أهم أسباب امتناع الفقهاء من التأويل الصوفي والتفسير الفلسفي وتوجه بعض العلماء أمثال العلامة محمد باقر المجلسي إلى كتابة معاجم الأحاديث والروايات.
المرحلة الأصولية
لكن، وبزوال الصفويين، خفت وطأة الإخباريين أيضاً وبدأت المرحلة الأصولية. والعلماء الأصوليون من الشيعة الذين كانت لهم نزعة عقلية حلوا محل الإخباريين. «وحيد البهبهاني» كان الأستاذ الأعظم لهذا التيار الذي أحيا بدوره العقلانية في الفقه الشيعي وبذلك بدأ العصر الحديث للمؤسسة الدينية الشيعية.
وفي ساحة السلطة أيضا انتقلت المؤسسة من شكل حكومي إلى إطار مدني. بزوال الحكم الصفوي، زال مقام «شيخ الإسلام» أيضا وبذلك بدأ الانفصال بين الحوزة والحكومة وبين «الشيخ» و«الشاه»، الذي كان من شأنه انقسام مؤسساتي بين الدين والدولة وتغيير المشهد.
ولم يهتم فقهاء «الحقبة الحديثة» بالحكام بل رجعوا إلى الفلاسفة المسلمين ليعيدوا صياغة علم الأصول بإعانتهم. لذلك ليس خطاء (مقارنة بإرجاع بداية عصر التنوير الأوروبي إلى كتابة كانت الرسائل الفلسفية في الحقوق) أن نقول بدأ العصر الجديد في إيران قبل كتابة الدستور والقوانين المدنية في حقبة الملكية الدستورية بكثير، وذلك حينما بدأ فقهاء الشيعة بالاهتمام بأصول الفقه وفلسفة الفقه وشرعوا بكتابة الرسائل الفقهية العملية وتكلموا فيها عن الحقوق والتكاليف الشرعية الفردية والاجتماعية للمؤمنين. في طريق مثل هذا تولدت المؤسسة المرجعية بالتدريج.
نظام تربوي
في «الحقبة الوسطى» (من سقوط الساسانيين إلى سقوط الصفويين) كان التدين شأناً فردياً، ولم يكن للمؤسسة الدينية الشيعية من معنى ولا وجود، ولم يكن هناك نظام تربوي ديني منسجم مع استمرار السلسلة الصفوية وغلبة الشيعة، اهتم علماء الدين والفقهاء في تشريع أمور الحكم وتأسيس نظام للحكم ودستور لتسيير أمور البلد بدل الاهتمام بتدبير شؤون الدين لعامة الناس. ولكن «الحقبة الحديثة» (من سقوط الصفوية إلى ظهور المشروطة) كانت وريثة نظام تعليمي وحوزي معين، ابتعد بمرور الزمن في عصر نادر شاه (الأفشاري) وكريم خان (الزندي) من مصدر الحكم وزال التزامه بالحكومة والسلطنة، وحتى نادر شاه سعى لاتخاذ موقف حيادي بين الشيعة وأهل السنة.
بعد هذا صمم فقهاء الشيعة أو أجبرتهم هذه الحالة على تأسيس مؤسسة توازي الحكومة والسلطنة، ولم يستطع ذكاء أغا محمد خان القاجاري احترامه للفقهاء وسعى فتحعلي شاه لتكرار تجربة شاه طهماسب الصفوي في إعلان نيابة السلطنة من جانب الفقهاء، للحؤول دون نجاح عملية استقلال مؤسسة المرجعية واستقرار المؤسسة الدينية.
واجهت مؤسسة الحكم بظهور الشيخ مرتضى الأنصاري كأول مرجع عام للشيعة وبعده مراجع كـ الميرزا الشيرازي والآخوند الخراساني والسيد أبو الحسن الأصفهاني وآية الله البروجردي منافسة مقتدرة وجادة متمثلة في مؤسسة المرجعية التي كانت بين حين وآخر تقلص من سلطتها.
فمراجع تقليد الشيعة في العصرين القاجاري والملكية الدستورية لم يكونوا «شيوخ إسلام» بينما كانوا في العهد الصفوي يعدون الساعد الأيمن للسلطان. في واقع الأمر إنهم كانوا في بعض الأوقات يجعلون السلطان ساعدهم التنفيذي، وكان ذلك السبب وراء رواج نظرية النيابة، وكما كان في أوروبا البابا يتوج الشارلماني أو نابليون فقد كان الفقيه يعطي في إيران أذن السلطنة لشاه طهماسب أو فتحعلي شاه، أو كما فعل الميرزا الشيرازي كان يحكم بتحريم أحكام الشاه، أو كما فعل الآخوند الخراساني يصدر جوازا شرعيا لإقامة حكومة ملكية دستورية، وكان آخرهم، آية الله البروجردي، يراقب أعمال الحكومة مع الشاه.
ملك واحد وقضية واحدة
طوال مائتي سنة من تاريخ «الحقبة الحديثة»، على موقع إقليمي جغرافي واحد كان يسمى «الممالك المحروسة الإيرانية»، كان ملكان يحكمان البلاد في آن واحد: احدهما ديني والآخر دنيوي، يسير أولهما المجتمع بينما كان يسيطر الثاني على الحكم. كان الشاه حاكم الدنيا، والفقيه حاكماً بين الناس وفي زمن الصفويين خرجت إيران من مرحلة ملوك الطوائف وتبدل الوضع إلى مملكة واحدة، تضيف كل يوم سهولة الاتصالات على قوة المركز. فإن كان في الماضي لكل ولاية حاكمها ولكل قرية أمامها، مع اتحاد الولايات وإحياء الحدود العامة لإيران، أصبح للبلد ملك واحد وفقيه واحد.
الفقيه كان رئيس الحوزة العلمية ورئيس المذهب وكانت عاصمة الشيعة تتغير، مرة السامراء (في عهد الميرزا الشيرازي) وتارة النجف (في عهد الآخوند الخراساني) ومرة قم (في عهد آية الله البروجردي).
لكن بظهور الإمام الخميني واجهت المرجعية الشيعية عصراً جديداً: عصر تبديل المرجعية إلى ولاية الفقيه، الإمام قبل وصوله إلى الإمامة السياسية والقيادة الدينية اجتاز مراحل ثلاث تتمايز بثلاثة عناوين وألقاب مختلفة:
أولاً: السيد الحاج روح الله (حاج اقا روح الله)
نعرف أن المرحوم الإمام كان يتمتع بعلم فقهي واسع، علاوة على الذكاء السياسي وأن نفسية الإمام كانت كما يقال صحيحا فلسفية وعرفانية، لكن حزمه السياسي والاجتماعي لم يمنعه من الاهتمام بعلم الفقه.
في البداية كان الإمام مدرسا للفلسفة والأخلاق وكان ابن العربي في العرفان وصدر المتألهين في الفلسفة محبوبيه، وربما لولا النظام التعليمي المسيطر على الحوزة، لبقي الإمام في سيره الفلسفي وسلوكه العرفاني. كانت علائقه غير الفقهية وعلمه وذكاؤه الحاد في هذه المعارف بالمستوى الذي جعل المرحوم مرتضى الحائري (نجل مؤسس الحوزة العلمية في قم) يأسف على تغيير مساره من الفلسفة إلى الفقه ويقول: كان شرحه على صدر المتألهين في بعض الأحيان بقوة تظهره وكأنه اعلم من صدر المتألهين نفسه! والمرحوم مهدي الحائري (الابن الآخر لمؤسس الحوزة العلمية في قم) يحكي عن زمن كان يقيم فيه في أميركا ولم يجد أمام نفسه طريقا لحل مسألته الفلسفية إلا بالرجوع إلى الإمام الخميني الذي كان آنذاك في المنفى! مع ذلك فالإمام الخميني رجح عدم التضحية بنفسه (المصطلح الذي استخدمه آية الله الخوئي ليصف إصرار العلامة الطبطبائي على الفلسفة وامتناعه من الدرس والتدريس الفقهي) وأن يتحول إلى فقيه تام يستحق المرجعية مع احتفاظه على علائقه الفلسفية والعرفانية (التي بقيت حتى آخر حياته).
قبل ذلك الإمام (الذي كان آنذاك يعرف بعنوان السيد الحاج روح..) لعب دورا أساسيا في إحياء المرجعية العامة واستمرارها واستقلالها. بشهادة جميع المستندات والمذكرات التاريخية، كان من أكثر الناس تأثيرا على هجرة آية الله البروجردي من مدينته إلى قم واستقرار المرجعية العامة بعد عصر الآيات الثلاث.
مراجع قم.. الآيات العظام حجت والخونساري والصدر
في أحد المصادر تروى قصة «ذهاب السيد الخميني إلى السيد البروجردي ودعوته وإقناعه للقدوم إلى قم، وأيضا جواب الإمام إلى أهل مدينة بروجرد الذين كانوا يطالبون السيد البروجردي بالعودة إلى مدينتهم». لو يبقى السيد البروجردي في قم سيكون سيد إيران، في حال أنه رجع إلى بروجرد سيصبح سيد بروجرد فقط». ويروي المصدر نفسه قصة تسلية الإمام والآخرين للسيد البروجردي حينما واجه مشاكل في إعطاء الشهرية لطلبة علوم الدين (مبلغ شهري قليل يدفعه المرجع لطلبة علوم الدين لدفع حاجاتهم اليومية) قائلين: «الطلبة يريدونك لدرسك لا لمالك» (آية الله المنتظري: ص 112 - 111).
في واقع الأمر جهد الإمام لتثبيت مرجعية آية الله البروجردي وصل إلى مرحلة كتب فيها رسالة للشيخ محمد تقي الفلسفي (الخطيب الشهير في البلاد آنذاك)، يشرح فيها مشاكل السيد البروجردي المالية وقروضه (لإرسال الخبر إلى النجف وسامراء وإعطاء الشهرية في قم، أصفهان، مشهد و..) ويقترح عليه أن يشكل في طهران (الذي يعد مركز الوجوه الشرعية تؤمن به 80% من الوجوه) مجمع من التجار المحترمين يشرح لهم الظروف، ليتكفلوا بتأدية قروض السيد وتأمين ما سيحتاجه في المستقبل (كقرض حسن) خوفا منه على فقد هذا الحصن (صحيفة الإمام، المجلد 1، ص 34).
هذا الوجه من الإمام، هو «السيد الحاج روح الله الخميني». المدرس الرفيع الشأن في الحوزة العلمية الذي كان يدرس عصر يومي الخميس والجمعة في الفيضية درس الأخلاق.
«في درس الأخلاق، العرفان حاضر بكثرة، كان يذكر شيئا من كلمات الخواجة عبد الأنصاري (من مشايخ المحدثين والعرفاء، 439 - 814 هـ) وكان بيانه جذابا وجيدا، يتكلم فيه عن التوبة والإنابة والمعاد، حتى كان يبكي الكثيرين، وكان يدرس الفلسفة: المنظومة للملا هادي السبزواري والأسفار لصدر المتألهين. ولم يكن يدرس الفقه والأصول» (المنتظري: 91-90). وإن بدأ الإمام بعد ذلك بتدريس الفقه والأصول، لكن بعنوانه السيد الحاج روح (الذي كان وجهه الغالب حتى وفاة السيد البروجردي كان يعرف بتدريسه الفلسفة والعرفان والأخلاق: «في الطرف المقابل كان البعض يخالفون الفلسفة وأمثال هذه البحوث. وكان بعضهم يكفر الفلاسفة. أنا أعرف الشخص القائل أن يغسلوا كأس الماء التي شرب منها الحاج مصطفى (ابن الإمام) وقال بعده لكن لأن أمه ليست بفيلسوفة فان شاء الله سيتبع الولد أشرف الوالدين... والطريف أن الإمام كان يستلطف الرجل ويقول أنا مبسوط من هذا الرجل. يحكم على أساس اعتقاده أن مثل هذه المواقف أدت إلى اقتراب الإمام إلى الفقه.
نصيحة
آية الله محمد اليزدي من تلامذة الإمام (الرئيس السابق للسلطة القضائية في إيران) يروي نهاية تدريس الفلسفة: حينما كنا نشارك في دروسه الفقهية والأصولية، كان قد اعتزل الفلسفة. على الظاهر كان بعض أصدقائه نبهوه أن اهتمامك بالفلسفة سيطرح اسمك في قم كفيلسوف، وسيسبب ذلك في عدم حصولكم على المقام اللائق بكم في الفقه، والفقيه المعروف بإمكانه أن يعمل أكثر من فيلسوف شهير. والإمام عمل بهذه النصيحة وابتعد عن البحوث الفلسفية». (آية الله اليزدي: 44») السيد الحاج روح الله في زمن حياة آية الله البروجردي سعى جاهدا لتقوية الأجهزة المرجعية والفقهية.
علاوة على سعيه لانتقال المرحوم البروجردي إلى قم وجهده لتثبيت الشهرية، كانت مرتبة السيد الحاج روح الله في مكتب آية الله البروجردي رفيعة جداً إلى درجة كان يقال أنه وزير الخارجية في مؤسسة المرجعية كان لتواصل السيد البروجردي مع الحكومة وزيران وسفيران، أولهما الشيخ محمد تقي الفلسفي والثاني السيد الحاج روح الله الخميني الذي كان مقامه أرفع من المرحوم الفلسفي وكان يعد أعلى من سفير أو وزير وكمستشار للمرجع، ويمكن فهم اختلاف الرتبة.
هذا من رسالة الإمام إلى المرحوم الفلسفي. مراتب هذين الشخصين في الوقت نفسه تثبت أن المؤسسة المرجعية كان لها كالحكومة، إدارة واضحة وهرمية المراتب. إن كان للسلطنة الديوان، فللمؤسسة المرجعية أيضا بيوت العلماء والمراجع، وإن كان للسلطنة السفراء والوزراء، فالمرجعية أيضا كانت تتمتع بمثل هذين المعتمدين، وبدل الضريبة الحكومية كان يستفاد من الوجوه الشرعية. في جهاز مثل هذا كان للمرجع الاستقلال التام ليخاطب السلطان.
مكانة المرحوم الفلسفية، كانت ممتازة في بيت آية الله البروجردي، فهو يروي في مذكراته أن السيد البروجردي لم يوافق على الاستعانة من التجار في قضية الشهرية ولا على مقترح الإمام الخميني لأخذ قرض حسن منهم (فلسفي: 177) ويروى أيضا: «في نهاية العام 2531 هـ. 1937، بعث لي السيد البروجردي برسالة لألتقي مع الشاه وأقول له كما كتبت الجرائد عن إتمام التمهيدات اللازمة لفرض التعليم الابتدائي في البلاد، عليهم وضع التعاليم الدينية أيضا جنب التعليم الابتدائي». (نفسه، 181).
التقى الفلسفي مع محمد رضا شاه البهلوي عدة مرات. لكن في مرتبة أعلى كان السيد البروجردي يرسل سفيرا أعلى شأنا، أي الإمام نفسه. يقول آية الله اليزدي: «الإمام كان قد أعلن عن استعداده للقاء الشاه، وبتقدير من المرحوم السيد البروجردي، حدث هذا اللقاء الشهير الذي وضع الإمام فيه الشاه أمام الأمر الواقع». (آية الله اليزدي: 124). ليس هناك من تقدير شامل عن اللقاء الوحيد بين الإمام والشاه، لكن ما يثير الانتباه، هو استقلال مؤسسة المرجعية في المواجهة المتكافئة مع نظام السلطنة. أحد التقارير القليلة الباقية من لقاء الشاه والإمام لآية الله محمد اليزدي: «من مجموع الكلام المنتشر آنذاك وحتى في لقاءات كرامة الإمام مع المرحوم آية الله البروجردي أو لقاء الإمام مع الشاه، لا يستفاد أن المؤسسة الدينية كانت تريد أو بإمكانها إمساك زمام الحكم». (آية الله اليزدي: 68).
علاقة الإمام الخميني وآية الله البروجردي في السنين التالية تدهورت، لكن مع ذلك حتى نهاية حياة آية الله البروجردي لم يقف في وجهه وآثر لنفسه تقوية مكانته العلمية والفقهية. في هذه السنين التي كان يعرف بها ب «السيد الحاج روح الله» كان أهم كتاب للإمام «كشف الأسرار» الذي يوضح رؤيته السياسية المثالية. فيكتب مثلا عن المؤسسة الدينية قائلا: لتفعيل عجلة الدين نحتاج لهؤلاء الموظفين (رجال الدين). الكل يعرف أن لو يكون هؤلاء حزبا متميزا يطرح اسمه عند الشعب بإجلال وإكرام، سيصبح كلامهم من دون اثر». (كشف الأسرار: 105) ويوضح قصده: «لو نريد ترويج التدين بين الناس وأن نخدم بذلك الناس والبلد بمساع حميدة، علينا أن نقول حزب رجال الدين، هو حزب متميز ومستقل» (كشف الأسرار: 306).
في هذا الكتاب يطرح السيد الحاج روح الله فكرة تأسيس مجلس من رجال الدين، مشيرا إلى مجلس المؤسسين (الذي يختار شخصا للسلطنة) ومجلس الشورى الذي يدير البلد ويسأل: «تشكيل مثل هذا المجلس من مجتهدين متدينين، عالمين بحكم الله وعادلين.. ما سلبيته لنظام الملك وان تشكل مجلس الشورى من الفقهاء المتدينين أو تحت مراقبتهم، كما يقول الدستور، فما عيبه» (نفسه: 185).
ثانيا: آية الله الخميني
بمثل هذه الرؤية وبعد وفاة السيد البروجردي، رشح الإمام للمرجعية. من سنة 0413هـ . ش (1961م) كان يعرف بعنوان «آية الله الخميني». لقب «آية الله» للإمام في ذلك الوقت كان تأكيدا على درجاته الفقهية والأصولية، فقهية على حساب الجوانب الفلسفية والعرفانية، بالتأكيد لم يكن السيد الحاج روح الله ميالا للمرجعية ومع حزمه وبعد نظره السياسي، الذي ازدهر في ذهنه منذ كتابة «كشف الأسرار»، كان يرجح كباقي مراجع التقليد عند الشيعة أن يصل إلى هذه المرتبة عن الطريق التقليدي لاختيار المراجع ولولا ذلك ما كان له ادعاء بشيء.
المرجعية والسلطنة
في واقع الأمر أحد أهم وجوه التعبير بين المرجعية والسلطنة في «إيران الحديثة» كان في طريقه إلى تدشين هاتين المؤسستين. ملوك إيران القديمة وإيران الوسطى كانوا يصلون إلى الحكم عن طريق القهر وغلبة طائفة على طائفة أخرى وكانت قوتهم في المقاتلة أو موروثهم القتالي هو الكفيل ببناء السلالة الحاكمة، في حال أن مراجع التقليد كانوا يعينون على أساس مستوى مراجعة الناس لهم وعدد طلابهم والوجوه التي تدفع لهم من التجار. فإن كان لا يرقد ملكان في ملك واحد، كان ينام فقيهان على سجاد واحد:
أي أنه لم يكن في إيران ما بعد الدولة الصفوية زمن غير فترات الانتقال من سلالة إلى أخرى يحكم فيها البلد ملكان، لكن كانت مراحل كثيرة تنعم فيها البلاد بوجود فقهاء متعددين يتصدرون المرجعية في الوقت نفسه. من أكثر هذه الحالات صيتا كانت فترة ما بعد آية الله الحائري المؤسس لحوزة قم وكان هناك آيات ثلاث في قم هم السيد الصدر، السيد الخوانساري والسيد الجنت. هذا المشهد تكرر أيضا بعد وفاة آية الله البروجودي، الذي ظهر آيات «ثلاث» جديدة:
بعد رحيل آية الله البروجردي، واجهت الحوزة مشكلتين: أولا أي مرجع أو مركز سيتصدى لمسألة «الشهرية» (رواتب طلاب الحوزة) وثانيا من سيراجع الطلاب في دروسهم؟ بعدما تكفل لمسألة «الشهرية» الآيات السيدان الكلبايكاني والشريعمداري، أعرب الإمام عن ارتياحه وقال: عمل هؤلاء السادة حفظ الحوزة من أن تتلاشى. وفي مسألة التدريس أيضا تصدى الإمام للأمر، بحيث كان يغني الطلاب بالمعرفة، (آية الله اليزدي: 159).
في هذه الحقبة الزمنية اهتم الإمام بتدريس الفقه والأصول ومن موقعه كآية الله حصل على مكانة مرموقة لكنه لم يكن يسعى للمرجعية: «الإمام كان يخالف أن يسعى أحد في سبيل مرجعيته وكان يواجه بعض الأشخاص بهذا الشأن ويقول لهم: ما لكم وهذا الأمر، اهتموا بدرسكم» (نفسه: 291).
المصادر الأخرى أيضا تؤكد عدم رغبة الإمام في الوصول إلى مقام المرجعية. فمثلا يقول الحاج محمد الشانجي أحد التجار والوطنيين المعروفين في ذلك الوقت: «ذهبنا إلى بيت السيد الحاج روح الله وانتظرناه حتى وصل. بعد وصوله كعادته طأطأ برأسه ومن دون أن ينظر إلى أحد رد على السلام ودخل إلى البيت، بعد دقائق قليلة جاء وجلس، فتكلم معه أصحاب الحاجات الموجودون ثم ذهبوا. بعد ذلك ذهبنا نحن له وقلنا إننا جئنا من «الجبهة الوطنية» لتعيين المرجع، ولذلك جئنا إليكم. قال حسنا.. ولكن واجهنا ببرودة تامة. وحتى عندما طلبنا منه رسالته (العلمية) قال: ما عندي رسالة، عليكم أن تشتروها من المكتبات ولم يعطنا حتى رسالة واحدة. هذا في حال كان المراجعون الآخرون يعطون الرسائل ويقدمون الغداء ويعطون نقودا وكل شيء، قلت لنفسي نحن «إن لم يمكننا التأكد من مستوى علم هؤلاء، لأن الأمر يحتاج إلى معاشرتهم، ولكن من حيث التقوى فهذا السيد أنقى من الآخرين». (نقلا من الحاج محمد الشانجي، كتاب «ثورة إيران» برواية BBC ص 11).
كان آية الله الخميني صارما في نشر رسالته العلمية: «حينما طرحت فكرة نشر الرسالة العلمية لكرامة الإمام، لم يقبل بذلك... فاضطررت وبعض من تلامذة الإمام لنترجم حاشية الإمام على كتاب «وسيلة النجاة» للمرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني إلى الفارسية ونضعها ما بين يدي مقلديه كرسالة عملية... في نهاية المطاف وافق الإمام على أصل الفكرة، ولكن حسب الظاهر يخالف نشرها وتوزيعها بالمجان وأمر أن من يريدها ليذهب ويشتريها». (آية الله اليزدي: 292).
مع ذلك فإن الظروف السياسية والاجتماعية ونشاط الإمام الثوري خدمت بعضا من تلامذته والترويج لمرجعيته. بعد أحداث يوم 15 من شهر خرداد في سنة 1342 هـ. ش. (المصادف للخامس من يونيو سنة 1963م) ونشر مدرسو الحوزة العلمية في قم بيانين من شدة القلق على حياة آية الله الخميني ولأن إثبات مرجعيته كان كفيلا بردع النظام دون التعرض لحياته، فأيدوا في البيانين مرجعية الإمام: «لأنه كان حديثا منتشرا حول إمكانية إحالة الإمام إلى المحكمة كما كتب السيد الشريعتمداري، السيد الميلاني، السيد المرعشي النجفي، والسيد الحاج شيخ محمد تقي الآملي نصا يعرفون فيه آية الله الخميني كمرجع ليمنعوا قتله، آية الله الكلبايكاني كان آنذاك في قم ولم يتجه إلى طهران وآية الله الخونساري لم يكن يوقع شيئا في ذلك الوقت». (آية الله منتظري236:).
كما كتب أيضا 12 شخصا من مدرسي الحوزة العلمية في قم بيانا لتأييد مرجعية الإمام الخميني وتقع أهمية هذه البيانات في وجهين.
مؤشران لأهمية المرجع
الأول: يظهر موقع مؤسسة المرجعية، حرمتها وقدر شأنها أمام نظام السلطنة، بحيث كان يحول دون محاكمة مرجع التقليد.
الثاني: أنه للمرة الأولى كانت مجموعة من المراجع تؤيد مرجعية فقيه آخر عن طريق نص مكتوب، وهذه النقطة بالذات تدلنا على أول تغيير أدخله حضور الإمام في المؤسسة المرجعية. قبل ذلك أيضا كان آية الله الخميني قد سعى لإحداث تغيير في نظام الحوزات العلمية وتطوير برامجه. منها كان تشكيل لجنة تضم 11 شخصا تحت عنوان «إصلاح البرامج الحوزية» فيها كل من السادة: رباني الشيرازي، آذري قمي، مشكيني، أميني وقدوسي ومنتظري، هاشمي رفسنجاني، خامنئي، مصباح اليزدي، حيدري النهاوندي ومهدي الحائري الطهراني، الذين كانوا جميعا متأثرين بالإمام. كانت هذه من أولى مساعي المقربين من آية الله الخميني لإصلاح الحوزة. يقال أن هذه البرامج كانت من أسباب الخلاف بين الإمام وآية الله البروجردي.
المرجع في النجف
بالتأكيد لم يجد الإمام الخميني بعد وفاة السيد آية الله البروجردي الوقت الكافي لمتابعة برامجه الإصلاحية في قم. ولكن نفيه للنجف بدأ مرحلة جديدة لمقام المرجعية. في الحوزة العلمية في النجف، الحوزة الشيعية الأكثر شهرة وقم وفرت للإمام الخميني أعلى المراتب العلمية. فهناك بدأ دروسه في ولاية الفقيه، لا كمجاهد سياسي أو رجل ثوري، بل كمرجع جامع وفقيه، كامل قام بتبيين فلسفته السياسية.
في رسالة ولاية الفقيه انتقد الإمام الذين لم يهتموا بالشؤون السياسية لرجل الدين أكثر من غيرهم: «الملالي الذين لا يفكرون بتبيين النظريات والأنظمة الكونية للإسلام (ولاية الفقيه)» ويخصص الفصل الأخير من رسالته «خطة النضال لتدشين الحكومة الإسلامية» لإصلاح الحوزات والمؤسسة الدينية، ويتكلم فيه عن إصلاح أشباه المقدسين وتصفية الحوزات. فالإمام، وفي مواصلة لمشروعه غير المكتمل لإصلاح الحوزات العلمية ينتقد «قضية دخول العلماء في أجهزة السلاطين والظلمة» (نفسه: 146) ويكتب: «إذا دخل فقيه في جهاز الظلمة، كأنها دخلت أمة كاملة» (نفسه) وفي خطاب لم يعهد منذ عهد الصفوية حتى ذلك الوقت ينتقد وعاظ السلاطين ويقول: الكلام على أولئك الذين يضعون العمائم، متعلمين أو غير متعلمين ينضمون إلى الأجهزة لبطونهم أو بسط الرئاسة. ماذا نفعل بهم هؤلاء ليسوا فقهاء الإسلام، على شبابنا أن يخلعوا عمائمهم. يجب خلع عمائم هؤلاء الذين باسم فقهاء الإسلام باسم علماء الإسلام يتسببون بمثل هذه المفسدة في مجتمع المسلمين. (نفسه: 148).
أشباه المقدسين
بمثل هذا الخطاب أطاح الإمام بصرح كان قد بناه نظام السلطنة في «إيران الحديثة» من العصر الصفوي إلى الملكية الدستورية، على أساسه كان يسمي الشاه نفسه نائبا للفقيه، وبذلك وضع الإمام المؤسسة الدينية - المرجعية التي كانت تماشي الحكومة أمام منعطف جديد في حياته السياسية والاجتماعية، ويروي في كتاب «ولاية الفقيه» ذكرى مهمة: «كان يوما المرحوم السيد البروجردي، المرحوم السيد الخميني، المرحوم السيد الصدر والمرحوم السيد الخوساري رضوان الله عليهم (المراجع الأربعة في قم آنذاك) مجتمعين في بيتنا لنتحدث حول شأن سياسي قلت لهم قبل كل شيء عليكم التصدي لأشباه المقدسين بوجود هؤلاء كأنكم يهجم عليكم العدو ويقيد أيديكم بشدة، هؤلاء الذين اسمهم مقدسة وليسوا مقدسين حقيقيين ولم يدركوا المقاصد والمصالح، يقيدون أيديكم إن شئتم فعل شيء، الإمساك بالحكم أو السيطرة على المجلس لمنع مثل هذه المفاسد، سيهشمونكم وينزلون من قدركم في المجتمع. فلذلك قبل كل شيء عليكم أن تجدوا طريقة لهم». (نفسه: 144).
كان آية الله الخميني حين تدريسه ولاية الفقيه في النجف قد أطلق يديه وكان يفكر بمثاليته السياسية في كشف الأسرار و«ولاية الفقيه» من دون أن يكترث إلى رغبة المؤسسة الرسمية الدينية أو نظام السلطنة الحاكم.
السيد الحاج روح الله، مدرس الفلسفة والعرفان، وآية الله الخميني، الأصولي والفقيه المرجع، كان لم يلبس بعد ثوب المدرس والمرجع في قم. كان هذا اللباس قد ضاق عليه. فانتقل من عنوان «آية الله الخميني» إلى عنوان. الإمام الخميني، وانتهت مرحلة الاكتفاء بالمرجعية وحدها والتفت على البحث والدرس بسرعة، وبدخوله إلى باريس وثم طهران ولد الإمام مرة أخرى.
ثالثا: الإمام الخميني
تعبير الإمام لـ «آية الله الخميني» غير الدلالات السياسية وكان يدل أيضا على التغيير الذي حصل في الخطابات الفكرية في المجتمع الإيراني، فنظام السلطة ومؤسسة المرجعية من العصر الصفوي إلى نهاية حقبة الملكية الدستورية كانا قد أسسا بالمجموع لخطاب في إيران ليحل محل مؤسسة الإمامة في الفكر الشيعي.
في واقع الأمر الشيعة في غياب المعصوم وفي الفصل الأخير من تاريخ الإمامة أرادوا وبشكل واضح أن يؤسسوا نظاما سياسيا يجبر فقد الإمام الحاضر. فالملوك لم يكونوا قادرين على مثل هذا الفعل، نظرا لمكانة القهر والغلبة في تدشين نظمهم السلطانية. والفقهاء أيضا نظرا لفقدهم القوة والقدرة المالية، ما كان باستطاعتهم تشكيل حكومة. فعلى أساس اتفاق تاريخي شكلت السلطنة والمرجعية معا الحكم (في العهد الصفوي) حكم كان يملك القوة من جهة والشرعية من جهة أخرى، والإثنان معاً كانا يمتلكان المشروعية. في حقبة الملكية الدستورية الرأي والرؤية الشعبية حلت محل القهر والغلبة الملكية، لكن حتى النظام السياسي الملكي الدستوري (المشروطة) كان يتمتع بالمشروعية، فقط حينما يحامي عنه العلماء والفقهاء (المشروعة).
الإمام الخميني كحكيم وفقيه جامع أبطل هذه النظرية وشرع في الانتقاد المتزامن من مؤسستي السلطة والدين. لا يوجد في رسالة «ولاية الفقيه» ذكر للمرجعية، ولكن النقد الموجه من المرحوم الإمام إلى المرحوم البروجردي، جهد الإمام لإصلاح الحوزة واهتمام وصراحة بعض من تلامذته (كالمرحوم مطهري) في إصلاح الحوزة كان علامة على الاهتمام الذي كان يوليه الإمام لقضية إصلاح منظمة الحوزة، وعن السلطنة أيضا كان الإمام الفقيه الأكبر شهرة الذي أصدر ببطلانها (ولاية الفقيه: 14) كان الإمام منتبها إلى صيرورة الحكم الملكي وبذكاء استخدم دعاوى أتباع الملكية الدستورية (التأكيد على الدستور)، وأتباع الجمهورية (التأكيد على الشعب) من دون أن يؤيد لزوما الصيغتين فكتب: «الحكم في الإسلام ليس سلطانيا ولا ملكيا ولا إمبراطوريا. في هذه الأنواع من الحكم يسيطر الحكام على نفوس وأموال الناس ويتصرفون بها مستبدين في الرأي». (سنة 46) في إطار التنفيذ طرأت بعض التغييرات في طريقة الإمام لتأسيس الحكومة الإسلامية: فمثلا حل «مجلس التخطيط» محل «المجلس التقنيني» (ولاية الفقيه: 144) ونفى الحكم «الجمهوري» ليحل مكانه «الجمهورية الإسلامية» أو «مجلس الشورى الإسلامي»، ولكن الرأي الأساسي للإمام على تغيير نظام السلطنة وتحول مؤسسة المرجعية لم يتغير.
وصف آية الله الخميني ب «الإمام» كان إعادة إنتاج لنظرية الإمامة من بعد انقراض السلطنة. بعد الثورة كان جهد الإمام الأساسي منصرفا لإعادة بناء مؤسسة المرجعية، فبعد انتصار الثورة والمكوث القيصر في طهران، اتجه الإمام إلى مدينة قم ليواصل فيها بمقام آية الله الخميني دوره المرجعي. مرجعية لها شأن سياسي، لم تتدخل في التفاصيل التنفيذية ولكنها تتولى ترسيم الخطة وكتابة السياسات العامة لنظام الحكم.
إصلاح المؤسسة الدينية
لذلك وقع الإمام الورقة التمهيدية للدستور (التي كان قد كتبها الدكتور حسن حبيبي)، من دون أن يكون فيها ذكر لموقع ولي الفقيه. هذا لا يعني أن الإمام كان قد عدل من نظرية ولاية الفقيه، لأنه في حكمه لتنصيب المهندس بازركان وفي خطبته في مرقد الشهداء (عند دخوله إلى إيران) يشير إلى موقعه الشرعي، لكن تأييده الإجمالي للدستور، إقامته في قم وعدم رجوعه إلى طهران إلا بعد العارضة القلبية التي ألمت به، والإلحاح المستمر، هذه الإمارات كلها تشير إلى طموح الإمام، بعد انقراض السلطنة، على صرف جل اهتمامه على إصلاح المؤسسة الدينية وقد كانت قم أفضل مكان لذلك. لكن المشاكل التي طرأت لاسيما إثر تصادم «الدولة الموقعة» و«شورى الثورة»، وأزمات النظام الجديد التأسيسي أجبرته كمؤسس للجمهورية الإسلامية على الحضور في طهران والتأثير والتحكم في الحكم. في هذا الاختبار الجديد كان الإمام يسعى جادا ألا يتدخل في التفاصيل وعلاوة على ذلك كان لفترة يمنع دخول علماء جديدين من أمثال السيد آية الله بهشتي في الأمور التنفيذية. يقال أنه كان يخالف اشتراط الاجتهاد لوزير الأمن، وحينما سمع بقرار المجلس، ومع أنه لم يكن يريد مخالفة القرار، أعرب عن عدم ارتياحه من تورط رجال الدين في الشؤون الأمنية.
فتح باب الاجتهاد
بالتزامن مع إعادة بناء مؤسسة الحكومة واستبدال السلطة بالجمهورية سعى الإمام الخميني في العقد الأخير من حياته لإصلاح الحوزات العلمية. يكتب في إحدى أهم رسائله الموجهة إلى محمد علي الأنصاري: «في الحكومة الإسلامية يجب أن تكون أبواب الاجتهاد مفتوحة دائما.. الاجتهاد المصطلح في الحوزات لا يكفي. فإذا كان شخص أعلم الناس في العلوم المعهودة في الحوزات ولكنه لا يستطيع تمييز المصلحة أو الأشخاص الصالحين والنافعين من الأشخاص غير الصالحين، وبشكل عام يفتقد البصيرة الصحيحة وقوة اتخاذ القرار، فهذا الشخص لن يكون في المسائل الاجتماعية والحكومية مجتهدا». (صحيفة الإمام، المجلد 21، ص 177 - 178).
وبهذا المنطق، حذف الإمام في مرحلة إعادة صياغة الدستور (في سنة 1989) اشتراط المرجعية من شروط القائد في الجمهورية الإسلامية واكتفى بالاجتهاد كشرط لتصدي مقام ولاية الفقيه.
فصل المرجعية عن القيادة
هذا الفصل بين المرجعية والقيادة، بدل إلزام دمج الاثنين، كان آخر إبداعات المرحوم الإمام. وبإعطائه أيضا مزيداً من السلطات التنفيذية والحكومية للقائد، أثبت مقام القائد في مرتبة «رئيس البلد» بدل «رئيس المذهب»، ما أكده سماحة القائد أيضا من بعد الإمام.
في واقع الأمر كان الإمام الخميني يرجح وصول مجتهد لهذا المقام يكون اجتهاده أوسع من المصطلح في الحوزات، بدل وصول مرجع يكتفي مع علمه وتقواه بالاجتهاد المصطلح. كانت النهاية العملية لهذا التفكيك فرز رئاسة البلد عن رئاسة المذهب.
هذا والحال أنه الإمام في فترة توليه المتزامن للرئاستين، كان يسعى إلى ترك زمام شؤون الحوزة العلمية للمراجع. تقليد تمسك به خليفة الإمام بعده مع احتفاظه بموقعه ومرتبته الدينية: ترك شؤون الحوزات العلمية لمراجع التقليد.
الإمام وإن كان في كل سنوات حضوره في طهران لم يتدخل في شؤون الحوزة العلمية في قم وتركها إلى آية الله الكلبايكاني، ولكن كان بين حين وآخر يعبر عن مثاله الفكري لإصلاح الحوزة وتغيير تنظيم مؤسسة المرجعية بمثل العبارات المذكورة أعلاه. فانه ومن موقعه كإمام سعى لتحقيق قسط من التغيير في الفقه التقليدي إلى الفقه الحركي من خلال الأحكام الحكومية التي أصدرها، وبذلك كما يوضح بعض المحققين والمنظرين (كسعيد حجاريان)، وضع الفقه السياسي الشيعي أمام مدرسة جديدة تسمى «فقه المصلحة».
الإمام الخميني
الإمام الخميني طوال فترة حياته تمكن من تغيير النظام السياسي الحاكم على إيران وأيضا تغيير النظرية السياسية السائدة على المحافل الفكرية. كان ظهوره نهاية لحياة نظرية السلطنة الشيعية (دمج السلطة والمرجعية) بعد ذلك توجه لتحقيق غايتين اثنتين: إحلال الجمهورية محل السلطنة وارتقاء مفهوم المرجعية عن طريق استقرار ولاية الفقيه. أتاح له المجال لمثل هذا التغيير الخطابي العظيم، ما كان يختفي وراء التعابير المختلفة التي كانت تطلق عليه: فمن يذكر السيد الحاج روح الله ينظر إلى موقعه الفلسفي والعرفاني والأخلاقي، ومن يذكر آية الله الخميني يتذكر موقعه الفقهي والأصولي، ومن يتكلم عن الإمام الخميني يذكرنا بمجاله السياسي والاجتماعي، ولكن هذه الأوجه الثلاثة كانت تروي فقط قسما من مكانة آية الله الإمام السيد الحاج روح الله الخميني. رجل كان ظهوره نهاية لتاريخ طوله 400 سنة.
_____________________________
(*) ترجمة محمد الفرطوسي رئيس تحرير جريدة «شرق» الإيرانية
احدث الاخبار
العميد جلالي: بنيتنا التحتية الصاروخية تحت الأرض سليمة ولم تمس
برّ الوالدين في سيرة أهل البيت عليهم السلام
خطيب جمعة طهران: صمود المقاومة الإسلامية هو ثمرة التأسي بمدرسة القرآن الكريم
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية