Skip to main content

قوة الموقف.. عند الإمام الخميني

التاريخ: 23-08-2008

قوة الموقف.. عند الإمام الخميني

قوة الموقف

قوة الموقف.. عند الإمام الخميني

الرجال مواقف، والمواقف مرآة تعكس بواطن الرجال، وعظمة المواقف تُنبئ عن عظمة صُنّاعها وسط مختبر الأحداث وكما يقول الشاعر أبو الطيّب المتنبي:

على قدْرِ أهلِ العزم تأتي العزائمُ           وتأتي على قدر الكرام المكارمُ

ثم إنّ قوة المواقف وتناسبها مع الأحداث يعتمد اعتماداً كلّياً على الأُسس والقواعد التي يعتمدها الإنسان في حياته أو يؤمن ويعتقد بها؛ وقد اتكأت مواقف إمامنا الراحل (قدّس سرّه) على عنصرين مهمين:

1 ـ القرآن الكريم: وهو كتاب الله الذي فيه تبيان كل شيء ورسالته الخاتمة التي جعلها مستوعبة لكل مخاضات الزمان.

2 ـ السنّة النبوية وأحاديث أهل البيت(ع): والتي غطّت كلَّ مفردات الحياة وبأدق ما يكون والتي هي مأخوذة عن الله تعالى {وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى}.

علميته في هذا المجال: وقد ساعدته كثيراً وبصورة واضحة على اتخاذ الموقف الصائب والمناسب لدى كل طارئ أو خطوة كان يخطوها، فإمامنا (قدّس سرّه) من أبرز علمائنا ومن أكبر مراجع التقليد؛ وهذا ما لا يحتاج إلى دليل، فاستلهم رؤيته الفذّة الثاقبة من رؤية الإسلام وتحت شمس هدايته، فكان مثلاً يقرأ {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، الظالمون، الفاسقون} والحديث الشريف «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، ثم كان يقرأ «العلماء ورثة الأنبياء»، فيشعر بثقل التكليف وأنه قد ورث هذه المسؤولية الكبرى وهي وجوب تطبيق شريعة الله على الأرض.

فوقف وبكل جرأة يدافع عن الإسلام شرعة ونظاماً، ففي 8 / نوفمبر/ 1962 وقف وقفته الشهيرة في وجه الحكومة الشاهنشاهية إثر إسقاطها لثلاث بنود مهمة وحيوية في لائحة مجالس المحافظات والأقاليم وهي: الإسلام، والقسم بالقرآن، والرجولة؛ واجتمع بالعلماء موضّحاً الخطر المحدق بمستقبل الشعب وإسلامه، وتجاوب الشعب المسلم مع علمائه في تظاهرات صاخبة أجبرت الحكومة في النهاية على التخلّي عن قرارها، وأعلنته في جرائدها الرسمية؛ نزولاً لرغبة الإمام(قده) وإصراره، وذلك في تاريخ 1 / ديسمبر / 1962م وبذلك عرف الشعب قائده الحقيقي الذي لا تخدعه السلطة صاحب الدور الأمثل في ذلك الحدث.

ورغم أنّ تلك العقائد التي طرحها الإمام(قده) ومنذ بداية حركته الميمونة كانت توصف بالتشدد والتي رفضها البعض من المسلمين لكنها لم تفشل عندما حرّكتها وحدة الأهداف التي لا تراجع فيها، وعدم تخوّف الإمام(رض) من معارضة الطغيان وقسوته.

وبروحيته العالية المتفائلة استمر الإمام(رض) في موقفه الجريء وصبَّ كل جهوده من أجل تطبيق شريعة الله في إيران، سواء لمّا كان في إيران أو في المنفى. فمثلاً بعد وصوله إلى باريس في 5/10/1978 صدر بيانه عن طريق لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان حدّد فيه ثلاث أهداف للوصول إلى هدفه الأهم ـ كما جاء في البيان ـ وهو استقلال إيران وتطبيق الشرعية الإسلامية، واستمر على موقفه وبإصرار شديد لا تأخذه في الله لومة لائم حتى عاد إلى إيران وطبّق الشريعة السمحاء رغم كل ما يدور حوله من حملات التشكيك والعداء المباشر وغير المباشر.

وبالإضافة إلى الركيزتين الحيويتين اللتان انطلقت منهما مواقف الإمام(قده)، فقد دعمت مواقفه أمور كثيرة أهمها:

1 ـ عدم تبعيته: أنّ عبوديته لله وحده وإيمانه الراسخ بمبادئه جعلته يتحرر من كل أصناف العبوديات الأُخرى، فلم يعتمد إلاّ على الله وأبناء شعبه، ومن منطلق «ولا تتخذوا من اليهود والنصارى أولياء لكم...»، انطلق سماحته مشيراً ـ ومنذ البداية ـ إلى نصيحته للشاه بعد الانقلاب وذلك في خطابه بعد مجرزة الفيضية في 23/ابريل/1963 حيث قال له: «دع هذا الانقلاب؛ فإن الأجانب يريدون إغفالك كي تكون عميلاً لهم». وهنا يدعو الشاه إلى رفض التبعية للأجنبي، ثم يوضح ذلك في خطابه في 2/12/1962م قائلاً: «إن استقلال الوطن واقتصاده يتعرّضان لخطر السيطرة الصهيونية وان استقلال وحياة الوطن في المستقبل هو بأيديكم». وكذلك يأتي تصريح ديفيد اوين وزير الخارجية في حديث لمحطة التلفزيون في 22/10/1978م: (إنّ الإطاحة بالشاه في إيران تتعارض مع مصلحة الغرب) حتى أنه كان يمتنع عن الإدلاء بأيّ تعليق سياسي؛ تلبية لرغبة السلطات الفرنسية وما شعار «لا شرقية ولا غربية» إلاّ خير دليل على استقلاليته.

2 ـ شجاعته وعزّته: ومن وحي {قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا...} و{إنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين}، كانت شجاعة مواقفه وعزة ثباته، فرسالتاه شديدتا اللهجة التي أرسلهما إلى الشاه من أجل التنازل عن تغيير لائحة مجالس المحافظات والأقاليم لأكبر دليل على ذلك، ثم نداءه على رجال السافاك عندما طوّقوا بيته ليلاً؛ لاعتقاله في حين كان في بيت ولده مصطفى، ولما سمع أصواتهم خرج إليهم قائلاً بأني روح الله الخميني الذي تبحثون عنه. وحتى قرار العودة إلى إيران ـ وهي بتلك الظروف الفوضوية تقريباً ـ كان قراراً شجاعاً وجريئاً، وقد حذّروه من موقفه هذا لكنه قال وبثقة عالية لجميع صحفي العالم في بيان له: «أُريد أن أذهب إلى شعبي وأعيش فيما بينهم، وان كان القرار أن أُقتل فدعوني بين شعبي أُقتل، اُريد الذهاب كي أخدم شعبي وأحلّ مشاكله» وذلك في 9/ بهمن/ 1357، وتلتها مواقف شجاعة كثيرة مثل: احتلال وكر الجاسوسية الأمريكية، وإعلانه عن قطع العلاقة مع أمريكا، وإعلان عداءه لها ولإسرائيل وكل أعداء الإسلام من الشرق والغرب.

3 ـ معرفته الدقيقة بالأوضاع السياسية وحيل السياسة: ولمّا كان المؤمن ينظر بنور الله، فقد اتضحت لهذا المؤمن الناسك وتكشّفت أمام نظراته الثاقبة كل ألاعيب السياسة ومخادعاتها؛ فتعامل معها تعامل الخبير المحترف وردّها خائبة حسيرة، ونذكر هنا بعض هذه الألاعيب وكيف تعامل معها الإمام(قده):

أ ـ عندما طلب رئيس الوزراء في حكومة الشاه علي إمامي هدنةً من الإمام الخميني لإخراج إيران من الأزمة، قال سماحته: «لا يمكن إعطاء هدنة؛ إذا كان ذلك سيساعد على بقاء نظام الشاه... وإنّ أي مشروع يتضمن بقاء هذا النظام فهو غير مقبول من جانبنا ومن جانب الشعب الإيراني».

ب ـ ولّما حاولت السلطة أن تلعب لعبة الانتخابات؛ من أجل تمزيق شمل المعارضة الإسلامية والوطنية وأخذ فرصة جرّ الأنفاس، قال سماحته: «إذا كان الشاه مستعداً للقبول بمبدء الانتخابات الحرّة لكان استجاب لإرادة الشعب التي عبرت عنها المظاهرات الجماهيرية في طهران وكل مدن إيران وتنازل عن العرش، لقد أدلى الشعب بصوته من زمن طويل».

ج ـ ورَدّاً على محاولة تشكيل حكومة عسكرية دعا إلى إضراب عام شلّ أجهزة الدولة في 14/10/1978.

4 ـ الإصرار وعدم التراجع: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}، ففي خطابه الذي ألقاه في 2/12/1962 قال سماحته:«فالإخفاقات الظاهرية ليست مهمة، أما إذا انهزم الإنسان نفسياً وانهار معنوياً فإنه لا يستطيع أن يستعيد حياته والى الأبد ويجب أن يذهب إلى المقبرة، إنَّ الهزيمة هي لمن تنحصر آماله وأهدافه في الحياة الدنيا.... أما الذي تربطه بالله صلة فلا هزيمة له.... إن الإنسان الموحّد لا ينهزم».

بعد اتفاقية الجزائر 1975 م بين العراق وإيران أجاب على سؤال كان عن سبب ترحيله من العراق قال: قالوا لي لا نتحمّل نشاطك لعلاقتنا مع إيران، فقلت لهم: لديّ مسؤوليات تجاه شعبي. ثم قال سأواصل الكفاح ضد نظام الشاه. وحتى موقفه المعروف من استمرار الحرب العراقية ـ الإيرانية حيث قال حرب حتى انقضاء الفتنة.

5 ـ حساباته الموفّقة لما تؤول إليه الأمور: ونقلاً عن الشهيد بهشتي حيث قال: «لمّا رجع من باريس إلى طهران قال: إن الإمام الذي لقيته كان يعرف ساعة ذهاب الشاه وساعة عودته إلى طهران راسماً بذلك آفاق المستقبل».

كما وقد صرح تصريحه المثير عندما غزا الجيش العراقي بلاد إيران حيث قال «الخير فيما وقع»، وكما وأن تحذيراته لحكّام الخليج الذين وقفوا إلى جانب نظام البعث في العراق من «أنَّ صدام سوف ينالهم بشرّه»؛ وقد وقع.

وكذلك رسالته إلى غورباتشوف ونبوءته بانهيار الاتحاد السوفيتي إذا ما استمر غورباتشوف بالاعتماد على الغرب، وقوله: «على كارتر أن ييأس من الرئاسة».

بالإضافة إلى علنيّة موقفه ووضوح أهدافه التي كان يتحرك من أجل تحقيقها وهي: الاستقلال، وتحرير الموارد الحيوية في البلد من أيدي المستعمرين تحت ظل حكومة الاهية إسلامية؛ كل هذا جعل الشعب أمام رؤية واضحة للمستقبل الذي كان ينتظره، ثم أن تواضعه وزهده في هذه الحياة جعل الشعب يذوب بحبّه ويتحرك رهن إشارته رغم ضعف وسائل الاتصال؛ حتى صار موقفه يتجسّد حيّاً قوياً متحركاً تنهض به اُمة إيران بكاملها، ولذلك قال الفيلسوف الفرنسي سارتر ـ وهو لا يكاد يصدّق ما يرى ويسمع ـ: إنّي لا أعجب من حدوث ثورة لكنّي أعجب من أن يستطيع رجل وحده من تعبئة الملايين تحت لوائه. وهكذا وبمواقفه الشمّاء الصادقة أصبح رجل القرن الذي قلّب معادلات السياسة الدولية وحساباتها وأثبت فشلها وخواءها أمام إرادة الشعوب المؤمنة؛ فصار عنواناً للثائرين، وصار اسمه صرخة تهتزّ لها قلوب الطغاة والمستكبرين. فسلام عليه يوم ولد يوم انتقل إلى جوار ربه ويوم يُبعث حيّاً.

والحمد لله رب العالمين.

احدث الاخبار

الاكثر قراءة