التخريب الثقافي والفكري: الجامعة ـ الحوزة
التاريخ: 26-07-2008
التخريب الثقافي والفكري: الجامعة ـ الحوزة المؤسسة الثقافية نحاول هنا أن نقف على الجانب الثقافي الأكثر حساسية من كل الجوانب الأخرى, وباتساع مفردة الثقافة من الناحية اللغوية, وتداخلها مع كل مجالات الحياة لابدّ من القول: بأن المحور التربوي والتعليمي والحوزوي ببرامجه ومناهجه يعدّ المكوّن الأساسي لذاتنا الثقافية، وهو المحور الذي حظي باهتمام استثنائي لدى الإمام الخميني، مثلما كانت المؤسسة الدفاعية هي الأداة الإضطهادية والقمعية للشعب، كانت المؤسسة التعليمية والتربوية تمثّل أداة التخريب الفكرية والثقافية في الوسط الإسلامي، ومثلما استوعب الإمام خطر الأداة العدوّة الأولى استوعب خطر الأداة الثانية بصورة أكبر، وأبدى إزاءها حساسية شديدة, وعمل على فضح مخططات النظام السابق في هذا الإطار، وما تقوم به مؤسساته الثقافية من أدوار ترويجية للثقافة الغربية، وما تؤدّيه المناهج التربوية من تشويه لتاريخ وعقيدة الأمة الإسلامية ومن إساءة لعلماء الدين
التخريب الثقافي والفكري: الجامعة ـ الحوزة
المؤسسة الثقافية
نحاول هنا أن نقف على الجانب الثقافي الأكثر حساسية من كل الجوانب الأخرى, وباتساع مفردة الثقافة من الناحية اللغوية, وتداخلها مع كل مجالات الحياة لابدّ من القول: بأن المحور التربوي والتعليمي والحوزوي ببرامجه ومناهجه يعدّ المكوّن الأساسي لذاتنا الثقافية، وهو المحور الذي حظي باهتمام استثنائي لدى الإمام الخميني، مثلما كانت المؤسسة الدفاعية هي الأداة الإضطهادية والقمعية للشعب، كانت المؤسسة التعليمية والتربوية تمثّل أداة التخريب الفكرية والثقافية في الوسط الإسلامي، ومثلما استوعب الإمام خطر الأداة العدوّة الأولى استوعب خطر الأداة الثانية بصورة أكبر، وأبدى إزاءها حساسية شديدة, وعمل على فضح مخططات النظام السابق في هذا الإطار، وما تقوم به مؤسساته الثقافية من أدوار ترويجية للثقافة الغربية، وما تؤدّيه المناهج التربوية من تشويه لتاريخ وعقيدة الأمة الإسلامية ومن إساءة لعلماء الدين.
لقد اتجه خطاب الإمام التنديدي الفاضح لسياسة الشاه التربوية إلى طلاب الجامعات وإلى الأساتذة.
الجامعة
لقد شكّلت الجامعات المحور الأساسي لاهتمام الإمام بالتعليم كمؤسسات يجب أن تقوم على كادر تعليمي نظيف, وغير مرتبط بالدوائر الكبرى، وعلى مناهج تعليمية تنسجم مع أهداف الثورة وتحقق الذات الثقافية، بعد غياب طويل، حتى لو استغرق تبديل هذه المناهج وقتاً طويلاً, فماذا ترجو الأمة من جامعة تروّج مفاهيم الغرب، سوى الإساءة إلى هذه الأمة بتراثها وثقافتها وتاريخها وفكرها، ما عسى أن تفعل مثل هكذا جامعة سوى إيقاع الأمة في قبضة الدول الكبرى، من هنا فإن الإمام راح يردد أمام وزير خارجية تركيا في حزيران 1979م، ويقول، إنه (خلال السنوات الخمسين من الحكم الجائر في إيران كانت الجامعات موجودة وأساتذة الجامعة موجودين، فما الذي عملته الجامعة, وما الذي عمله الأساتذة سوى أنهم أوقعونا في قبضة القوى الكبرى. إنها لمأساة أن تقع سبل العلم بِيَد أفراد بعيدين عن الالتزام وعن التفكير بأمور بلدهم. إنها لمأساة أن تكون سبل العلم في قبضة من ليس له خلق إسلامي ولا التزام).
أمام مَنْ يردّد الإمام هذا الكلام؟. أمام وزير خارجية تركيا.
الدولة ذات الخصوصية في التاريخ الإسلامي.. وذات الخصوصية في الخروج على الذات الفكرية والثقافية للإسلام, وذات الخصوصية في نقل المفاهيم الغربية عبر المؤسسة الجامعية والتعليمية إلى الأمة الإسلامية.
إنه ليس كلاماً عادياً هذا الذي تقدّم على لسان الإمام.
إنه صرخة احتجاج على تشويه المؤسسة التعليمية ليس في إيران... إنما في خارج إيران. إنه لون من ألوان النشاط للإمام باتجاه إرساء المؤسسة الجامعية الفاعلة النابذة لقيم الآخرين والمكرّسة لقيم الإسلام و: (الجامعات بمقدورها أن تغمر العالم بالنور, إن قرنت التعليم بالخلق الإنساني, وبمسايرة الفطرة الإنسانية، وإن انفصل العلم والتخصيص عن الأخلاق والتهذيب والوعي والالتزام فسيؤدي إلى هذا الذي جرّه المفكرون والمتخصصون والجامعيون حتى الآن من مصائب على هذا العالم)، كما يقول ذلك الإمام بمناسبة يوم وحدة الجامعيين وعلماء الدين في 10 صفر 1401هـ.
فهذا الكلام يرسم ولو بصورة عامة المنهج الذي يجب أن يسود في المؤسسة التربوية والتعليمية، المنهج المراعي للعلم والأخلاق, إذ إنّ تجريد هذه المؤسسة من الأخلاق سيحوّلها إلى مؤسسة مخرّبة, وسيحوّل رموزها وأساتذتها إلى أدوات تبعية تجّر الأمة إلى الشرق والغرب, كما يقول في نفس المناسبة المذكورة.
يقول الإمام: (هؤلاء الذين تخرّجوا من الجامعات، واحتلّوا مناصب في الوزارات هم الذين جرونا إلى شراك الشرق والغرب وجعلونا تابعين لها. نحن إذ نطالب بإصلاح الجامعة والتعليم، لا نرفض وجود الجامعة, بل نريد جامعة تخدم البلد والأمة. إن جامعة تخدم أميركا أولى لها أن تزول)
إنّ هذا التركيز المكثف من قِبَل الإمام على استقلالية الجامعة والمنهج الإسلامي الذي يجب أن يسودها، والكادر الإسلامي الذي يجب أن يديرها يشكّل أحد أهم محورين قام عليهما جهد الإمام في إطار التعاطي مع المسألة الثقافية، وما تشكّله المؤسسات الجامعية والتعليمية من محور رئيسي في دائرتها، فالمسألة الثقافية هي بدرجة من الخطورة, بحيث يقول الإمام بصددها في حديث له في 5 جمادي الثاني 1400هـ: (نحن لا نخشى المحاصرة الاقتصادية، نحن لا نخشى الغزو العسكري، خوفنا من التبعية الثقافية، خوفنا من الجامعة الاستعمارية. نحن نخاف من جامعة تربّي شباباً بشكل تجعلهم في خدمة الغرب، نحن نخاف من جامعة تربّي شبابنا بشكل تجعلهم في خدمة الشيوعية).
من هنا يصبح واضحاً لماذا يعطي الإمام الخميني أهمية استثنائية إلى المراكز العلمية والتربوية والجامعات في وصيته المباركة؟ فهو يقول في وصيته: (قضية المراكز التعليمية والتربوية من دور الحضانة إلى الجامعات هي من القضايا المصيرية المهمة التي كررت الحديث عنها مراراً لأهميتها الاستثنائية).
وهذه العبارة لاشكّ أنها تلقي الأضواء على دقّة تشخيص الإمام لمحاور الصراع الخطيرة, وأسسه وأسباب الانتصار فيه، فالمجال التعليمي والتربوي يمكن أن يشكّل أحد محاور الصراع الأساسية في هذا الإطار، فباختراقه اخترقت حصانة الأمة الإسلامية، وبصيانته ستضمن الأمة أصالة فكرها وثقافتها.
فهذا المجال يبقى جزءاً أساسياً من العقل المفكّر للأمة كما يقول الإمام، كما أنه يشكّل عصب المجتمع وخلاصة طاقته الفكرية والإبداعية، والمحرّك الذي يصنع موقع الأمة الفكري والحضاري في العالم.
ونظراً لأهميته كانت الجهود الغربية الاستعمارية قد انصبّت عليه لتحدث تغييراً في كل مجالاته: في مناهج التعليم والتربوية، وفي الجهاز التعليمي التربوي، وفي طريقة الحياة الجامعية، فعلى صعيد المنهج والمادة التدريسية، عرفت القوى الأخرى كيف توصل مناهجها إلى كل مدارس العالم الإسلامي وجامعاته، لتدريس أبناء المسلمين تاريخاً مزوّراً منحرفاً، مفرغاً من كل عناصره الثورية والإيجابية والتحريرية، تاريخاً سلبياً في رموزه ووقائعه ونسقه، وفي الجانب الثقافي والفكري، فإن منهج التدريس ونوع المادة المُدرّسة وضعا على أساس: أنّ كل منجزات العلم كانت إفرازاً للفكر الغربي، وكل الإكتشافات والصناعات الكبرى كانت نتيجة من نتائج هذه الثقافة، وهذا الفكر الغربي، وبالتالي فإن أبناء المسلمين، يتخرّجون من مدارسهم وجامعاتهم وهم خاضعون لعقدة التغريب، ويحسّون بالصغر أمام العالم الغربي، ويحاولون الاقتداء به واللهاث وراءه، بعد أن أشبعوا بالمفاهيم الانحرافية، والتاريخ المنحرف والفكر المنحرف.
وتتعاضد في إيصال الأمور إلى هذا الحد من مفاهيم التدريس والمادة المُدرّسة، الأداة التدريسية، الأساتذة الذين يكون لهم الدور الأكبر في صياغة شخصية ونفسية الطالب, وأرضية التفكير لديه, وتكوينه الثقافي والمعتقدي، كما أنّ العنصر الثالث هنا، هو طريقة الحياة المدرسية والجامعية القائمة على الانحلال والتميّع واختفاء الجانب الأخلاقي والمعنوي لدى الطالب.
والآن قطعت الثورة الإسلامية في إيران شوطاً كبيراً في تطهير المؤسسات التعليمية، وإرساء الأسس الإسلامية في بناء المؤسسات التربوية وتهيئة الكادر التدريسي الملتزم بثقافته وفكره الإسلاميين، ولاشكّ بأن ذلك تَطَلّب جهوداً كبرى بذلت خلال السنوات الإحدى عشر من عمر الثورة، ويقول الإمام في هذا الإطار في نداء له إلى حجاج بيت الله الحرام غرة ذي الحجة 1405هـ.ق يقول: (أنتم اليوم تغلّبتم في الناحية الثقافية على الثقافات النتنة، الشرقية والغربية، وعلى الثقافة (الشاهنشاهية) المنحطّة التي دفعت بشبابنا الأعزاء أفواجاً إلى الفساد، وسخّرت جامعاتنا لخدمة الغرب ولخدمة الشرق أحياناً، وأنتم اليوم سحقتم تحت أقدامكم الثقافات التي كانت قد جعلت من شعبنا شعباً تابعاً مستهلكاً راضخاً للمتجبّرين، وكانت قد نشرت فيه الفحشاء والفساد والإدمان بشكل متزايد، حتى أوشك أن يبتعد عن الأخلاق والإنسانية.
(أنتم) أحللتم بدل ذلك الشرف الإنساني والتقوى والشهامة والشجاعة والصبر والمقاومة والمروءة والتعاون في البر والتقوى والاهتمام بمصالح الشعب والوطن، وأنتم الآن تتقدّمون فخورين لنشر الثقافة الإلهية).
وبالتأكيد يبقى هذا الإنجاز بحاجة إلى عين راصدة ساهرة لأوضاع المؤسسات التعليمية وبحاجة إلى جهود إضافية تكمل المسيرة, وتضع ضمانات ديمومتها, وتحول دون عودتها ثانية إليها.
فالجانب التربوي يبقى أكثر من كل الجوانب الأخرى استهدافاً من القوى الكبرى؛ لأنه كان (المعمل) الذي ينتج نماذج ورموز الساسة الذين يتسلّمون زمام أمور البلد.
وكان المجال الذي يترعرع فيه أولئك الذين ترشّحهم هذه القوى للإمساك بناصية الأمور، فإذا ما أقفل هذا المجال بوجه قوى الاختراق الثقافي، وأعدّ الكادر التدريسي الملتزم بمبادئ الإسلام تكون قد أغلقت أهم نافذة للغزو الفكري والثقافي الاستعماري, وضمن استقلال البلد الفكري ومستقبله السياسي، فالسياسة هي بالتالي نتاج الأفكار والتعبير عنها بأساليب مختلفة، ولا يمكن القضاء على التبعية السياسية ما لم يُقضى على التبعية الفكرية والثقافية.
إنّ تاريخ الجامعات ليس في إيران فحسب، بل في عموم العالم الإسلامي، يستبطن دوراً سلبياً عن دورها ـ أي الجامعات ـ في تحديد سياسات هذا العالم، وعن التدخّل الخطير الذي أوجدته الدول الكبرى فيها على أساس خطورة هذا التدخّل وأبعاده وآثاره.
ومن هنا يوصي الإمام الخميني بصورة ملحّة أن احرسوا المؤسسات التربوية بدءاً من دور الحضانة وانتهاءً بالجامعات والمعاهد العليا، ففي حراستها ضمان مستقبل الأمة، وقدرتها على إدارة الصراع واستقلاليتها السياسية، والاطمئنان إلى حركة الفكر الإسلامي الأصيل، وفضلاً عن هذا وذاك فإن صيانة الجامعة وتحصين المجال التربوي بصورة عامة، يشكّلان الضمانة المستقبلية للاكتفاء الذاتي، فهذا الاكتفاء لا يمكن أن يتحقق إلاّ بإرساء الأسس التي تصنع جانب الإبداع والابتكار, وهو الجانب الذي تقوم فلسفته بالأساس على الثقة بالنفس، والاعتماد على الذات، فالقوة النفسية والاطمئنان إلى الذات هما شرطاً الإبداع العلمي والفكري.
ويتّضح أيضاً لماذا يقول الإمام في وصيته: (إنّ الجامعات كانت مصدر القسم الرئيسي من الضربات القاصمة التي وجّهت إلى إيران والإسلام خلال العقود الخمسة المنصرمة, فما كان لوطننا أن تبتلعه إنجلترا وبعدها أمريكا وروسيا لو كانت الجامعات وسائر مراكز التربية والتعليم تدار وفق مناهج إسلامية ووطنية وتسير باتجاه مصالح البلد في تربية الأطفال والأحداث والشباب، ولو كانت تلك المراكز تدار وفق هذه المناهج لما كان ممكناً قط أن تفرض على الشعب المحروم المنهوب، الاتفاقيات المهلكة للحرث والنسل ولا أن تطأ أقدام المستشارين الأجانب أرض إيران).
الحوزة العلمية
أما المحور الثاني في هذه الدائرة، فهو محور المؤسسة الدينية.
ولا تكتمل رؤية الإمام في إطار المسألة الثقافية ما لم نقف على الطريقة التي تعاطي بها هذا المحور.
ونقول بهذا الصدد: إنه بقدر ما كان المحور الأول مستهدفاً من خلال المناهج الغربية الساعية إلى استهداف جذور الوعي الإسلامي، فإن الثاني كان مستهدفاً من خلال الأنظمة التي ترصد الحركة الثقافية, التي تحصل على هذا المحور وتحاصر هذه الحركة ورموزها, وتواجهها بحرب دعائية ضارية, وتحاول أن تتعاطى معها بنفس خاص عازل بينها وبين الجامعة التي تشكّل عماد المحور التعليمي المذكور.
حتى إنّ الإمام باعتباره رمزاً من رموز الحوزة العلمية الكبار كان يقول: بأن هنالك مؤامرة لإيجاد فواصل بين الجامعة والحوزة، وبأن هنالك ظروفاً استثنائية يُراد من ورائها تمرير الجهد الثقافي المعادي, وتعطيل الحركة الثقافية الإسلامية, والى هذا النص الذي يسلّط الضوء على جزء من تلك الصورة، يقول الإمام في لقائه بأساتذة الجامعات وعلماء الدين والمسؤولين بمناسبة عيد الأضحى المبارك 10/ذي الحجة/ 1405 هـ.ق يقول:
(نعقد اليوم مقارنة بين الوضع السابق والراهن على بعض الأصعدة، وهذه المقارنة ينبغي أن تبدأ من هذا المجلس، إنه من بركات هذه الجمهورية أن يجتمع في مجلس واحد أولئك الذين ما كان بالإمكان اجتماعهم في العهود المبادة في هذه المجالس، تعلمون جميعاً أنه في السابق ما كان بين علماء الإسلام وحوزة قم العلمية وعلماء طهران, وسفراء البلدان الصديقة, وأساتذة الجامعات, ومسؤولي الدولة اجتماع كهذا, تتآلف فيه الأقوال ويتمّ تدارس المتطلبات وسبل العمل.
كانوا قد بثّوا الاختلافات داخل البلاد، بحيث كان عالم الدين يخشى أن يذهب إلى الجامعة ويقول ما يريد، وهكذا كان الجامعي يخشى أن يذهب إلى رحاب المدارس العلمية( الدينية) ويطرح مسائله).
وفي نص آخر رابط بين الجامعة والحوزة يقول الإمام في نداء له إلى حجاج بيت الله الحرام 1 ذي الحجة 1406هـ.ق.
( فيا أيتها الحوزات العلمية والمحافل الدراسية الجامعية! انهضي وأنقذي القرآن من شرّ الجاهلين المتنّسكين والعلماء المتهتّكين الذين يهتكون حرمة القرآن عن عمد وجهل.
وأقول عن جد لا عن مجاملة، إني آسف على ما فات من عمري من خطأ وجهل، وإنكم يا أبناء الإسلام الغيارى في الحوزات والجامعات ابعثوا في الحوزات والجامعات يقظة تدفعها إلى الاهتمام بشؤون القرآن وأبعاده المختلفة الكثيرة. اجعلوا تدريس القرآن نصب أعينكم في جميع أبعاده؛ كي لا تندموا وتأسفوا لا سمح الله على ما فات من شبابكم حين يهجم عليكم ضعف الشيب في آخر العمر، مثل كاتب هذه السطور).
وفي نص آخر يبلور طبيعة الموقف بين الحوزة والنظام (الشاهنشاهي) السابق، يقول الإمام: (لقد علم هؤلاء جيداً أنّ نفوذ علماء الدين يحول دون وقوع البلد في أسر بريطانيا تارةً، وفي أسر أميركا تارةً أخرى، نفوذ علماء الدين يحول دون وقوع اقتصاد إيران بِيَد إسرائيل.. لو كان لعلماء الدين نفوذ لصفعوا هذه الحركة على وجهها, ولصفعوا هذا المجلس(مجلس النواب الصوري) على وجهه ولطردوا نوّابه.. لو كان لعلماء الدين نفوذ لما سمحوا لعميل أميركي أن يعبث كيف شاء ولطردوه من إيران).
لقد جاء هذا النص في كلمة للإمام ألقاها في 30 جمادي الثاني 1384هـ.
ولأن علماء الدين ـ روّاد الحوزة العلمية ـ فإنهم حوصروا من قِبَل النظام (الشاهنشاهي) والأنظمة التابعة الأخرى, وقوبلوا بسياسة عازلة لدورهم الثقافي والفكري.. فمارس الإمام الذي أدرك أبعاد هذه السياسة بعد الثورة الإسلامية في إيران جهوداً رابطة للحوزة وللجامعة كمؤسسة ثقافية وتربوية أخرى, وركّز على إسقاط كل الاختلافات التي وضعت بين الاثنين وعمل على إيجاد جو تكاملي لعمل المؤسستين.
حتى أنّ جهود الإمام أدّت في النهاية إلى إعلان أسبوع للعلاقة بين الجامعة والحوزة, ولا تخفى بالتأكيد دلالات هذا الإعلان التكاملية والاهتمامية، فالإمام كان يسعى إلى دمج الطاقة الثقافية الإسلامية دمجاً لا يؤدي إلى قتل الحاجة التخصصية, وإنما يؤدي إلى جعل الوازع الأخلاقي هو المحور الذي يدور حوله العلم الإنساني بشتّى مجالاته.
كما أنّ الإمام يسعى إلى إنتاج المؤسسة الثقافية التي تعكس المفاهيم الإسلامية الأصلية, وتقف بوجه المفاهيم المنحرفة كمفاهيم فصل الدين عن السياسة أو فصل الدين عن العلم، وإذا كانت جسور العلاقة بما تؤدّيه من مهام تكاملية بين الجامعة والحوزة كمؤسستين تملأ الجزء الأكبر من المساحة الثقافية.
إذا كانت هذه الجسور التي أرساها الإمام تعكس وبعمق مدى اهتمامه بهذا الجانب المؤسساتي الثقافي، فلقد كانت هنالك ألوان أخرى من الإرشاد أو التنظير أو التوجيه التي يمارسها الإمام قد تكمل الصورة, وتوضّح ملاحقته أيضاً للأداة الثقافية كالإعلام مثلاً, وما يقوم به من دور مصيري على صعيد المسألة الثقافية، وباختصار يمكن القول: إنّ اهتمامات الإمام توزّعت على كل المجالات التي يمكن أن يغّطيها المعنى اللغوي لمفردة الثقافة، ولكن في الدائرة الأضيق كان مهتمّاً بالمحورين اللذين تقدّما, وهما محور الجامعة ومحور الحوزة العلمية, وما تعرّضتا لهما من أشكال إساءة تهدف إلى سلخهما عن أصالتهما الإسلامية.
على أية حال تبقى الحوزة العلمية هي المدرسة التاريخية الصائنة لعلوم الفكر الإسلامي, والمؤسسة التي قامت بدور دفاعي رائد عن هذا الفكر في لحظات(التحدّي) الفكري، وساهمت مساهمة فعّالة في الحفاظ على التراث الإسلامي، والوقوف بوجه محاولات طمس هذا التراث وتحريفه، كما لا يمكن أن يُنكر الدور الحوزوي في ترجمة الجهاد الإسلامي إلى واقع حياتي في وسط الأمة؛ من خلال قيادات قادت العمل الجهادي ضد مظاهر الفردية والاستبداد والظلم في فترات متفاوتة، وكان آخر هذه القيادات وأكثرها وعياً للمهمة الجهادية في الفكر الإسلامي، هي قيادة الإمام الخميني, هذه القيادة التي أعادت إلى الإسلام مجده, وأسست له كياناً سياسياً جديداً، بعد أن مزّقت الدول الكبرى العدوّة آخر كيان إسلامي سياسي له، وحاولت جاهدة أن تنهي طرح الدولة الإسلامية, وأن تضع البدائل لصنع الدولة مكانها.
بدائل الدولة القومية والدولة القطرية والدولة(المطعّمة).
إنّ قيادة الإمام الخميني هي تجسيد لِمْا يمكن أن تنتجه الحوزة العلمية من رجال, وتجسيد لدورها في مقارعة المفاهيم المنحرفة تلك.
يقول الإمام في أهمية الحوزة ودورها الدفاعي عن الإسلام بتاريخ 11/آذار/1989م ما يلي: (لاشك أنّ الحوزات العلمية والعلماء المبدئيين كانوا على مدى تاريخ الإسلام والتشيّع قاعدة الإسلام الحصينة في مواجهة الهجمات والانحرافات.
لقد سعى علماء الإسلام العظام جاهدين طوال حياتهم من أجل ترويج قضايا الحلال والحرام الإلهية, دون تدخّل ولا تصّرف, ولولا أولئك الأعزّة من الفقهاء لَمْا علم أي علوم محرفة كانت ستقدّم لعامة الناس تحت غطاء أنها علوم القرآن والإسلام وعلوم أهل بيت النبوة(عليهم السلام)، فلم تكن يسيرة مهمة جمع وحفظ العلوم القرآنية وآثار الرسول الأعظم وأحاديثه وسنّة المعصومين وسيرتهم.
ولم تكن يسيرة مهمة تدوين وتنظيم وتنقيح وتحقيق تلك العلوم، فقد أنجزت بإمكانات ضئيلة للغاية، وأنجزت في ظل حكم السلاطين والظلمة الذين جنّدوا كافة إمكاناتهم لمحو آثار ومعالم الرسالة الحقّة.
نعم, لم تكن تلك المهمة يسيرة، ولكنّا ـ ولله الحمد ـ نشهد اليوم ثمار الجهود المضنية لأولئك الفقهاء الأعزّة, نشهدها متجلّية في الكتب والمصنفات المباركة أمثال الكتب الأربعة, والمصنفات الأخرى للمتقدّمين والمتأخرين في الفقه والفلسفة والرياضات والنجوم، وعلوم الأصول والكلام والحديث والرجال والتفسير, والعرفان واللغة وسائر العلوم الأخرى، وما لم نسمّ كل تلك الجهود والمشاق جهاداً في سبيل الله فأي تسمية يمكن أن نطلق عليها، الحديث عن بعض الخدمات العلمية للحوزات الدينية طويل لا يسعه هذا المختصر).
ومن هنا كان الإمام يؤكّد على الدوام بضرورة الحفاظ على الحوزة العلمية وتدعيمها، وكان يوصي بضرورة تماسكها وإخضاعها إلى النظام الذي يساهم في صيانتها، فالحوزة بلا نظام تبقى مجالاً مفتوحاً للأعداء لكي ينفذوا من خلاله، ويقوموا بأكثر من دور خطير.. يقومون بتحريف المفاهيم الفقهية أو إثارة الخلاف والشقاق والتناحر بين علمائها أو في أوساط الطلبة.. يمكنهم أن يمارسوا تزييف مبادئ الإسلام عبر التظاهر باحترام هذه المبادئ، ويمكنهم أن يصوّروا الإسلام على أنه مجموعة فتاوى أو أحكام تقليدية..
وهذه الأخطار هي ليست احتمالية في المستقبل.
إنما تجربة الحوزة العلمية عانت منها ووجدت في بعض الأحيان جهدها الجماعي مربوطاً بهذه الأخطار، مربوطاً بمفاهيم عزل الدين عن السياسة.
مربوطاً بآراء (القدسية) المزيّفة التي تدّعي خصوصية العلاقة مع الله سبحانه وتعالى.
وما يخصّ التظاهر بالقدسية يقول الإمام في 11 آذار 1989م: (وما هو بالضئيل خطر تحجّر الحمقى من المتظاهرين بالقدسية في الحوزات العلمية, فلا يغفل الأعزاء طلبة العلوم الدينية ولا للحظة عن هذه الأفاعي ذات الظاهر الحسن والمضلل, فهؤلاء مروّجوا إسلام أميركا وأعداء رسول الله. ألا ينبغي أن يقف اتحاد الطلبة الأعزاء في مواجهة أفاعٍ كهذه؟!).
هذا في حين أنّ الوسط الاجتماعي يمكن أن يتأثّر في جزء منه بأساليب التزييف والتحريف تلك، مما يضاعف من حالة الخطر ويضيف إليها خطر أنّ رجل الدين الذي يجب أن يكون مجسّداً للقيم والمعاني الإسلامية، وإذا به يمرر مفاهيم غريبة على الرسالة.
إنّ تنظيم شؤون الحوزة العلمية يمكن أن يضع حدّاً لظاهرة الإندساس في الوسط الحوزوي المفتوح، وأن يتحوّل إلى حزام واقٍ يصون هذه المؤسسة، ولذا بقيت فكرة التنظيم هي الأخرى مستهدفة؛ لكي لا تأخذ مجالاتها التطبيقية في الحوزات العلمية، ففي هذا المجال يقول الإمام في خطاب له لعلماء الدين ( مهما يكن الحال فإن زبدة الموضوع هي حول: ما الذي يجب عمله لمنع تكرار تلك الحوادث المؤلمة والوصول إلى درجة الاطمئنان من تحقق القضاء الكامل على تسلل الأجانب في الحوزات الدينية، الأمر صعب ولاشك.
ولكن لا مناص يجب فعل شيء.
إنّ الواجب الشرعي والإلهي الأول هو حفظ الوحدة والتلاحم بين الثوريين من علماء الإسلام وطلبة علومه، وبغياب ذلك فأمامهم ليلة مظلمة وقلق أمواج وأعاصير عاتية).
وكما يسلّط الإمام الراحل الضوء على ذلك حيث يقول في وصيته: (ونعلم أنّ للقوى الكبرى الناهبة احتياطاً في المجتمعات من أفراد بعناوين شتّى من الوطنيين والمثقفين الزائفين المتلبّسين بزيّ العلماء, الذين لو سنحت لهم الفرصة لكانوا أشدّ خطراً وأضراراً، وأمثال هؤلاء يعيشون بين الشعب متحمّلين بصبر مشقّة الاستمرار ثلاثين أو أربعين سنة في التظاهر بسلوك إسلامي وقدسية وقومية فارسية ووطنية وأقنعة أخرى لتنفيذ مهمتهم في الوقت المناسب.
وقد شاهد أبناء شعبنا العزيز في الفترة القصيرة التي تلت انتصار الثورة الإسلامية نماذج كمجاهدي خلق وفدائيي خلق والشيوعيين وغيرهم, على الجميع أن يحيطوا بيقظة هذا القسم من المؤامرة, ويتأكّد هذا الواجب أكثر من الجميع على الحوزات العلمية، وتقع مسؤولية تطهير وتنظيم هذه الحوزات على الأساتذة الموقّرين والأفاضل ذوي السابقة الحسنة بتأييد من مراجع كل عصر، ولعلّ مقولة: إنّ نظم الحوزة في عدم نظمها, من الإيحاءات المشؤومة لنفس المتآمرين ومخططي المؤامرة).
إنه إيحاء مشؤوم، هذا الذي تعكسه مقولة عدم تنظيم الحوزات العلمية.
إيحاء تآمري يسعى إلى إبقاء هذه المؤسسة أسيرة للفوضى وسهلة على أساليب الاختراق والاندساس، ويهدف إلى إبقائها كمجال خصب لتمرير المفاهيم الشاذة وإلاّ فكيف يكون التنظيم للحوزة أمراً (عبثياً) في حين أنّ سنّة الكون والحياة تقوم على أساس هذا التنظيم؟
وكيف يتحوّل مفهوم هذا التنظيم إلى مفعول سلبي بعكس إيجابيته الطبيعية المعتادة؟ إنّ ما يخشاه أولئك المنادون بعدم تنظيم الحوزات العلمية هو: أن يتحوّل هذا التنظيم إلى أداة ضبط وتماسك وصيانة, وبالتالي أداة تطوير تساهم في دفع العطاء الحوزوي إلى الأمام، وما يخشونه هو أن تصبح مهمة التطهير مهمة سهلة التنفيذ في ظل النظام .. تطهير هذه المؤسسة من الرموز المنحرفة والمخرّبة والهدّامة والمشاغبة، ومهما يكن من أمر يبقى تركيز الإمام على الجانب الأخلاقي في المنهاج الحوزوي قائماً بإلحاح، فهو يقول في خطاب له مع أساتذة الجامعات وعلماء الدين والمسؤولين بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك 10 ذي الحجة 1405هـ .ق يقول: (وعلى الحوزات العلمية أن تهتمّ بالجهاد والأخلاق، وأن يكون لها درس أخلاق، لا درس واحد ولا اثنان، أن يكون لها عشرة دروس، عشرون درساً.. إذ أردتم أن يكون مستقبل بلدكم مشرقاً، فاهتمّوا بتربية أولئك الذين ينخرطون حديثاً في الحوزات. وحيثما يدرسون، ربّوا الأفراد تربية تجعلهم يهاجرون من هذا العالم وينشدون ما وراء هذه الدنيا؛ ليكونوا روحانيين. أي ليرموا بأبصارهم إلى الطبيعة, لتكن الخطوات منذ بدايتها نحو ذلك العالم).
من خلال ما تقدّم يمكن أن نقف على مايلي:
أولاً: إنّ الإمام بذل جهوداً كبرى من أجل تطهير الجامعة من الكوادر والمناهج المنحرفة التي تمثّل الثقافة الغربية والشرقية.
ثانياً: وتطرّق لجامعة قائمة على مناهج جديد ممثّلة للثقافة الإسلامية الأصيلة.
ثالثاً: إنّ الإمام بذل جهوداً تحذيرية كبيرة من الخط(العلمائي) المتظاهر بالقدسية في الوسط الحوزوي.
رابعاً: وطالَب بحوزة قائمة على التنظيم أولاً: وعلى إدخال دروس الأخلاق في منهجها الدراسي ثانياً.
خامساً: إنّ الإمام حرص على تأسيس علاقة خاصة بين الحوزة, والجامعة واعتبر أنّ هذه العلاقة هي ضمانة البعد التكاملي للحركة الثقافية والعلمية الإسلامية.
سادساً: إنّ عمل الإمام الثقافي اتّصف بنوع من الشمولية في تخريب الجهد الثقافي المعادي, وفي إيجاد البدائل الثقافية التي تمثّل أصالة الإسلام, وبما تتطلّبه هذه البدائل من تنظير شمل المنهج الثقافي والأداة الثقافية والوسط الثقافي.
احدث الاخبار
العميد جلالي: بنيتنا التحتية الصاروخية تحت الأرض سليمة ولم تمس
برّ الوالدين في سيرة أهل البيت عليهم السلام
خطيب جمعة طهران: صمود المقاومة الإسلامية هو ثمرة التأسي بمدرسة القرآن الكريم
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية