تأملات فكرية في مدرسة الإمام الخميني (قدس سره) 7
التاريخ: 07-10-2007
تأملات فكرية في مدرسة الإمام الخميني (قدس سره) 7 المقاومة واستلهام نهج الصمود الخميني ــ هذا الملف تم إعداده بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة بعد المائة لميلاد مفجر الثورة ومؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني (طاب ثراه)، استكمالاً للمواضيع والملفات السابقة التي نشرتها "كيهان العربي" عن سيرة حياة هذا الفقيه الرباني الراحل ومناقبه العظيمة التي تركت بصماتها واضحة على المستويات الإسلامية والثورية والإنسانية في أنحاء العالم
تأملات فكرية في مدرسة الإمام الخميني (قدس سره) 7
المقاومة واستلهام نهج الصمود الخميني
ــ هذا الملف تم إعداده بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة بعد المائة لميلاد مفجر الثورة ومؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني (طاب ثراه)، استكمالاً للمواضيع والملفات السابقة التي نشرتها "كيهان العربي" عن سيرة حياة هذا الفقيه الرباني الراحل ومناقبه العظيمة التي تركت بصماتها واضحة على المستويات الإسلامية والثورية والإنسانية في أنحاء العالم.
ورغم أن هذا الملف يتناول أساساً معالم الشخصية الخمينية في أبعادها المختلفة، إلا أن التطورات والمستجدات الراهنة في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، لم تغب عن المواضيع والأحاديث الواردة فيه، انطلاقاً من أن ما يجري الآن على الساحتين الإقليمية والدولية مرتبط بشكل أو بآخر بالنهضة الكبرى التي أطلقها إمامنا الراحل في سبيل الانتقال من الاستكبار والعبودية وإيصال المسلمين والبشرية جمعاء إلى بر الأمان:
دمشق/ إعداد وحوار: حميد حلمي زاده
في ذكرى الإمام الخميني (قدس سره)، نعود إليه لنستلهم ونتعلم ونسترشد. في هذه الأيام، نحن ندعو الجميع، إلى إعادة قراءة تجربة الإمام وخطابه وفكره وسيرته ونهجه ومشروعه، عسى أن نجد في ذلك ما يساعدنا على تجاوز الكثير من المآزق التي يواجهها الكثير من حركات النهوض والتحرر والصحوة في العالم العربي والإسلامي، لأن حركة الإمام لم تكن حركة سياسية منقطعة عن الجذور، ولم تكن نهضة جهادية بلا خلفية فكرية.
إن حركة الإمام الخميني ونهضته، تستند إلى أسس ومبان نظرية وفكرية علمية فقهية متينة جداً، وبالتالي فإنه يمكن أن نغترف من هذا البحر، وأن نتعلم من هذه المدرسة الجامعة الشاملة، ما نستطيع أن نواجه به كل شأن وتحدٍّ وصراع.
ربما يظن الكثيرون، أن مشكلة الإمام الخميني مع الشاه في بدايات سنة 1961م، عندما بدأت حركته، كانت مشكلة داخلية، وأن الإمام كان يختلف مع النظام الشاهنشاهي الحاكم في إيران آنذاك، حول مسائل الحرية والزراعة والحقوق وما شاكل ذلك، وكأن المسألة قطرية بحتة. لكن الأمر لم يكن كذلك. فبالعودة إلى كلمات الإمام وخطبه في بداية حركته ونهضته، نجد بأن مشكلته مع النظام، كانت تنطلق من موقع الأمة، ومن موقع الصراع الكبير، قبل انطلاقها من الأزمات الإيرانية الداخلية.
وحتى في ترتيب العناوين، كنا نجد بأن الإمام كان يتحدث عن نظام الشاه أولاً، على أنه أداة قمعية عميلة للولايات المتحدة الأمريكية، وعلى أنه نظام التبعية المطلقة لأمريكا.
وكان سماحته يقول: على إيران أن تكون مستقلة عن أم المصائب وأم الفساد والشيطان الأكبر.
لقد كان الإيرانيون وكثيرون آخرون في العالم، يعرفون هذه الحقيقة جيداً، بأن الحاكم الفعلي، هم الأمريكيون الذين كانوا يستحضرون 60 ألف خبير في كل إدارات ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية والسياسية.
وإزاء ذلك كانت خلفية معركة الإمام مع الشاه تنطلق بالدرجة الأولى من أن هذا النظام، هو نظام عميل وأجنبي عن ثقافة وحضارة وتاريخ الشعب الإيراني والأمة.
أما العنوان الثاني الذي كان الإمام يؤكد عليه في خطبه وبياناته، هو موقف نظام الشاه من الصراع مع "إسرائيل". لقد كان هذا النظام متحالفاً مع "إسرائيل" استراتيجيا، وكان يزودها بالنفط مجاناً، ويشكل بالنسبة لها قاعدة خلفية، يمكن أن تستهدف الأمة العربية من خلالها.
كان الإمام الخميني (رض)، يقف ويطالب بقطع العلاقات مع "إسرائيل وبقطع إمداد "إسرائيل" بالنفط، وبوقف أي شكل من أشكال التواصل بين إيران و"إسرائيل"، ويدين الشاه على هذا التوجه. في بداية الستينات، وعندما كان نظام الشاه يعطي نفطاً مجاناً لــ"إسرائيل" دعماً لها، كان الإمام الخميني في مدينة قم آنذاك يفتي بجواز دفع الزكاة والخمس إلى المجاهدين الفلسطينيين بمعزل عن خلفيتهم الفكرية والعقائدية سواء كانوا إسلاميين أو وطنيين أو ماركسيين أو ذوي اتجاهات أخرى، لأنهم يقاتلون الصهاينة ويدافعون عن الأمة كلها، وقد كان هذا من أهم ساحات التناقض التي كانت قائمة في إيران.
العنوان الثالث في حركة الإمام كان مواجهة عمليات الظلم والطغيان والاستبداد التي كان ينفذها الشاه، ولهذا السبب رأينا أنه بعد الخطابات الأولى للإمام الخميني في المدرسة الفيضية في مدينة قم سنة 1963م، وبعد أن كان رجال الشاه قد اقتحموا تلك المدرسة الدينية وأقدموا على قتل الطلاب ورميهم من على الشرفات، وفي أعقاب سقوط الكثير من الشهداء والجرحى، بعد كل ذلك الترهيب جاؤوا إلى الإمام وقالوا له: إن كنت تريد أن تخطب وتصدر البيانات فلا مانع من ذلك، لكن هناك ثلاثة خطوط حمراء لا يجوز أن تتجاوزها أو تتعرض لها.
(أولاً: أمريكا). (ثانياً: إسرائيل). (ثالثاً: شخص الشاه)، وعدا ذلك يمكنك أن تنتقد الحكومة والوزراء والنواب وبرامج الدولة وخطط الوزارات؟! لكن إذا تناولت الإدارة الأمريكية أو إسرائيل أو الشاه شخصياً فهذا خط أحمر ونتيجته الإعدام؟!
بيد أن الإمام الخميني خرج في المهرجان الذي أقيم لإحياء ذكرى شهداء مدرسة الفيضية وقال للناس: لقد جاءني رجال الشاه من السافاك وقالوا لي (كيت وكيت وكيت)، وأنا أقول لكم: إن أمريكا هي أم المصائب و"إسرائيل" غدة سرطانية وهذا الشاه حاكم ظالم فاسد، ويجب أن يحاكم على كل الجرائم التي ارتكبها بحق إيران والأمة.
إذن منذ البداية كانت ثورة الإمام على الشاه تقوم على خلفية استحضار مواقع الأمة في الصراع مع الشيطان الأكبر، مع "إسرائيل"، ومع الاستبداد الشاهنشاهي. وقد اختار الإمام طريق الحركة الشعبية الجماهيرية وكان يثق بشعبه ثقة عظيمة جداً.
واستمرت تلك الثورة من سنة 1963 حتى سنة 1979 أي ستة عشر عاماً من النضال والجهاد والتحديات والمواجهات والدماء إلى أن انتصرت في نهاية المطاف.
لقد عانت تجربة الإمام الخميني في الماضي نفس المعاناة التي عاشتها تجربة المقاومة في لبنان وتجربة الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية. فعند بداية الستينات واجه الإمام الخميني أولاً حملة تشكيك واسعة في هدف انتفاضته الشعبية. وللأسف فإن هذا التشكيك لم يكن يصدر من الشاه ودوائر الاستكبار في العالم وحسب بل شارك فيه بعض الأصدقاء من البسطاء والطيبين الذين لا يدركون أبعاد المسائل. لقد شككوا في واقعية الهدف بالقول: (أيها العجوز، هل تستطيع وأنت لا تملك سلاحاً طرد أمريكا من إيران.. ماذا تقول أنت؟! هل ستخرج "إسرائيل" من إيران وتطرد هذا النظام الشاهنشاهي المتجذر في الحكم والمؤسسات والأمن والاقتصاد والإعلام؟! هذا هدف غير واقعي، وهذا جنون وخيال وسراب وبالتالي فأنت تبحث في عالم المثاليات).
وقد واجه الإمام هذا التشكيك وكان يؤكد على أنه يحمل هدفاً واقعياً ويقول للناس ــ وهو وحيد حينذاك: (نعم يمكن أن يتحقق كل ذلك بالتوكل على الله.. بسواعدكم وصمودكم سنتمكن من أن نقطع أيدي أمريكا عن إيران وسنطرد الصهاينة من بلادنا، وسوف نسقط هذا النظام ونطرد الشاه من أرضنا).
وكان الإمام يضرب للناس الأمثال في جهاد الأنبياء من إبراهيم (ع) وموسى (ع) وعيسى (ع) وكان يقول: (ألم يذهب موسى (ع) لوحده وليس معه في الدنيا إلا أخوه وعصاه ليواجه فرعون الذي كان ظالماً مستبداً على مصر والجوار؟ ولقد انتصر موسى في نهاية المطاف.. إن رب موسى حاضر مع كل الذين يسيرون في نفس الدرب وفي نفس الطريق).
وهذا ما عانته المقاومة الإسلامية في لبنان منذ سنة 1982 عندما ارتفع الهدف الذي يقول: نريد أن نطرد الاحتلال من أرضنا بلا قيد أو شرط وبلا ضمانات وبلا مكافآت وجوائز. وكان كثيرون يقولون: (هذا هدف غير واقعي، هذا خيال وجنون وسراب؟!).
لكن ما حصل أن العدو كان هو الذي يتراجع بينما المقاومة كانت تتقدم وتتقدم، وبالفعل فقد تحقق هذا الهدف. إن هذا الكلام نفسه هو الذي يقال اليوم بشأن الانتفاضة في فلسطين: (إنك أيتها الانتفاضة أو أنتم أيها المجاهدون أيها الشعب الفلسطيني المنتفض.. إن هدفكم ليس واقعياً إذ هل يمكن أن تطردوا إسرائيل ولو من أرض عام 1967؟! لا يمكنكم ذلك فإسرائيل قوية وأمريكا معها والعالم كله إلى جانب إسرائيل!).
لكن الفلسطينيين سوف يؤكدون بالتجربة والمواظبة على الجهاد أيضاً أن هذا الهدف هو هدف حقيقي وواقعي بكل ما للكلمة من معنى.
كما واجه الإمام الخميني (رض) التشكيك في شرعية الوسيلة. فهو لم يخض حرباً عسكرية في مواجهة الشاه بل أنه خاطب الناس ودعاهم إلى النزول إلى الشوارع ليسقطوا بالمظاهرات السلمية نظام الشاه. ولكن في مقابل ذلك كان رد الشاه دموياً وعنيفاً للغاية. وجاء بعض الناس وبعض الفقهاء وبعض النخب الدينية والسياسية والثقافية يتساءلون: (لماذا إراقة كل هذه الدماء؟). أنا أتذكر أنه في تلك السنين كان بعض الكبار يقولون: (من الذي سيجيب الله يوم القيامة ويتحمل مسؤولية هذه الدماء؟). وقد وصلت هذه التشكيكات إلى مسمع الإمام الخميني (رض) فكان يقول بكل ثقة: (أنا سأقف يوم القيامة لأجيب عن هذه الدماء، إنها سفكت في المكان الصحيح وفي سبيل الله والحق وفي سبيل كل القيم التي بعث الله الأنبياء والرسل عليهم السلام من أجلها).
إن التشكيك بشرعية الوسيلة حصل في إيران وحصل في لبنان وهو اليوم عنوان بارز من عناوين المواجهة ضد الانتفاضة والمقاومة في فلسطين، عندما يشكك البعض بأصل الجهاد أو بشرعية العمليات الإستشهادية هناك.
لقد تصدى الإمام الخميني لسياسة الرد الدموي العنيف لنظام الشاه ضد الشعب الإيراني الثائر، وهذه ذكريات يجب أن نستحضرها لا لنتحدث عنها فقط بل وأيضاً لنتعلم ونستفيد من هذه التجربة المعاصرة. نحن نتكلم عن أشياء حصلت في النصف الثاني من القرن العشرين وفي الماضي القريب ولا نتحدث عن أشياء حصلت في قرون بعيدة. أنا أقول للذين تحبطهم أعداد الشهداء ويبدو أن بالويل والثبور، وشق الجيوب، وندب الصدور، والدعوة إلى الانهيار والسقوط والاستسلام، إنه في يوم واحد وهو يوم 15 خرداد سنة 1963، أمر الإمام الناس بالخروج إلى الشوارع فخرجوا، وفي مدينة واحدة هي العاصمة طهران، قتل رجال الشاه خمسة آلاف مواطن إيراني من الرجال والنساء والأطفال.
في ساعة واحدة استشهد هذا العدد الكبير من الناس، وكان على الإمام أن يواجه هذا الرد الدموي العنيف. وبالطبع فقد خرجت أصوات تقول للإمام: (هذه هي نتائج خطبك وبياناتك.. حركتك هذه كان لها كل هذه التبعات الكارثية على نسائنا ورجالنا وأطفالنا ودمائنا؟!). ولكن الإمام كان له نهج آخر في مواجهة هذه المجازر وهذه السياسات الدموية.
إن المجزرة سواء كانت في طهران في 15 خرداد، أو في صبرا وشاتيلا في لبنان، أو في قانا في سنة 1996، أو في دير ياسين، أو كما حصل في جنين في آذار سنة 2002... المجزرة بشكل عام تحمل الشيء ونقيضه في آن واحد. إنه يمكن أن نأخذ المجزرة ونصبغ وجوهنا وثيابنا بدماء المقتولين فيها ونندب حظنا، ويتحول الدم إلى وسيلة لتثبيط العزائم، ونشر اليأس والإحباط، وللتهويل على الناس، ولإنهاء بقية الأمل المتجذر في نفوسهم. لكن في الوقت نفسه يمكن أن نأخذ هذه المجزرة ونصبغ بالدماء المراقة فيها، وجوهنا ولحانا، ونحول هذه الدماء إلى غضب وثورة وإرادة، ونقدمها شاهداً على مأزق العدو، لأن الجيش الذي يطلق الرصاص على صدور العزل، يبرهن بذلك على ضعفه وانهياره وسقوطه في نهاية المطاف. إننا يمكن أن نحمل المجزرة ونجعل منها عاملاً تعبوياً ومحرضاً قوياً، وحاضراً وجدانياً، أخلاقياً، إنسانياً، لصنع النصر والأمل والثقة ولإرعاب العدو وإخافته. وهذا هو ما فعله الإمام الخميني في إيران.
إن الإمام لم ينس ذكرى 15 خرداد في يوم من الأيام. فطيلة 16 عاماً بقيت المجزرة حاضرة في خطابات الخميني وأدبياته ووجدانه، وعندما يستحضر الإمام هذه الذكرى فإنه يعلم ما الذي ينبغي أن يقوم به للرد على هذه الجريمة النِكراء. وليس كما يحصل في عالمنا العربي عندما يستذكر المجازر التي تعرض لها أبناؤه مثلما وقع في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وقانا وحتى مجزرة جنين، حيث تتخذ هذه المناسبات أبعاداً احتفالية عابرة، لا تلبث أن تنسى بعد مرور ذكراها.
علي أن أقول بأن مواجهة السياسة الدموية الصهيونية، تكون في حمل هذه المجازر إلى كل قلب وعقل وشريان لنصنع من خلال ذلك عزماً وإرادة باتجاه متابعة الطريق واستمرار المقاومة. لا يجب أن تكون هذه المجازر ذريعة للإحباط ونشر اليأس في صفوف الفلسطينيين وأبناء أمتنا الإسلامية.
إن الأمر الآخر الذي اعتمده الإمام الخميني (رض) في حركته، كان مواجهة سياسة عزل انتفاضته عن العالم. ينبغي الاعتراف بأن أمريكا والعالم الغربي ومعهما "الأنظمة العربية الأمريكية الولاء"، نجحوا حينذاك في عزل حركة الإمام. ولذلك فإن الشعب الإيراني تبنى المواجهة لوحده منذ عام 1963 وحتى عام 1979، ولم يكن يحظى بالمؤتمرات والتظاهرات المؤيدة لانتفاضته. لم يكن هناك دعم يذكر سوى بعض الفعاليات التي كانت موجودة في لبنان وأماكن أخرى. وكان لسماحة الإمام القائد المغيب السيد موسى الصدر دور بارز على هذا الصعيد. لكن عموماً كان الإمام الخميني والشعب الإيراني وحيدين ومعزولين في حركتهما. وكانت الحجج حاضرة لتبرير الابتعاد عنهما. تارة كانت الحجج قومية، باعتبار أن هؤلاء إيرانيون، أو مذهبية باعتبار أن حركتهم شيعية (ولا دخل لنا فيها نحن المسلمين).
لقد تمكنوا من عزل حركة الإمام في إيران، ولكنه بقي وفيا لمبادئه وقيمه ودينه. وعندما انتصرت الثورة، أراد أن يعيد إيران إلى الأمة، لأنه يعرف الأسباب الحقيقية التي أدت إلى عزل هذه الحركة طوال سنوات.
وهذا ما تعرضت له المقاومة في لبنان أيضاً، وهو ما تتعرض له المقاومة والانتفاضة في فلسطين في إطار سياسة العزل والحصار واستفراد الفلسطينيين، حيث يتهم بالإرهاب كل من يدعمهم بكلمة أو مال أو سلاح، ويعاقب حسب النظام العالمي الأمريكي الجديد.
إن الإمام الخميني واجه سياسة التسويات في خضم أحداث الثورة في إيران، بعد أن كان قد خرج من النجف الأشرف إلى فرنسا. فجاؤوا إليه في باريس بعد أن أيقنوا بأن النظام الشاهنشاهي يتداعى، وعرضوا عليه أنصاف حلول، وهذا ما يحصل غالباً مع الحركات الجهادية والانتفاضات الشعبية التي تقرب من النصر، فعندما يجد الظالمون أنفسهم في معرض الهلاك يلجأون إلى أنصاف الحلول أو بعض التسويات التي قد يكون بعضهما مذلاً وقد يكون بعضها في ظاهره منصفاً.
ومن التسويات التي عرضت على الإمام هي أن يرجع إلى إيران ويقيم النظام الذي يريده وأن يجري استفتاء للشعب بشرط أن يبقى محمد رضا بهلوي ملكاً رمزياً كالملكة "اليزابيث" لا يتدخل في الشؤون السياسية والإدارية. ولكن الإمام رفض ذلك، حتى ان بعض أصحاب الإمام قالوا له: (إنها تسوية منصفة، وهل يستحق إلغاء هذا المنصب الرمزي أن نستمر بالمظاهرات ونقدم المزيد من الشهداء؟!)، فقال لهم الإمام: (نحن طالبنا بمحاكمة هذا المجرم لا بمكافأته وإعادة تنصيبه برضانا ملكاً على إيران، لأن بقاء هذا الرجل ملكاً رمزياً يعني بقاء المسمار الأمريكي الإسرائيلي المستبد في إيران، والذي يمكن فيما بعد أن يكبر وينمو ويستعيد زمام المبادرة.
إن الإمام رفض كل التوسيات المذلة، وأصر على طروحاته وواظب عليها وتعاطى معها بنفس طويل، وتحمل هذا الكم الهائل من التضحيات، ووصل إلى نهاية المطاف، وهذا ما حصل للمقاومة في لبنان أيضاً، حيث عرض على لبنان منذ عام 1983 أن تنسحب "إسرائيل" في إطار اتفاقية سلام، وبعد عام 1985 كان صمود المقاومة، يؤدي إلى تراجع الصهاينة من اتفاقية سلام إلى ترتيبات ومفاوضات أمنية، ومن ثم إلى ضمانات أمنية بأن "لا تتعرض حدودنا لشيء وأن تنتهي المقاومة عند هذا الحد"، ولكن في نهاية المطاف حققت المقاومة الغرض الذي كان يقال عنه في البداية أنه غير واقعي، وخرج الصهاينة بدون تسويات وترتيبات وضمانات أو أنصاف حلول، وبلا قيد أو شرط، فكان الاندحار الذي شاهدناه كلنا سوياً.
إن هذه التجربة، مهمة جداً بالنسبة للشعب الفلسطينية، تصور إلى أي بؤس وصلت الحالة في فلسطين؟. لقد كان شعار الدولة الفلسطينية المستقلة يرفع على الدوام، لكن حتى الآن لا توجد دولة فلسطينية مستقلة. هناك سلطة حكم إداري ذاتي أو ــ فلنقل ــ "السلطة الفلسطينية" التي تمارس حكمها ذاتياً إدارياً، ومع ذلك أين هو الاستقلال؟!
إن الأمريكيين والصهاينة الذين ارتكبوا المجازر، هم الذين يفرضون الهياكل التنظيمية والإصلاحات ويأمرون بتوحيد الأجهزة الأمنية، وهم الذين أيضاً يتدخلون في انتخاب المسؤولين المناسبين. إن أي تنظيم حزبي لا يرضى لنفسه مثل هذا، فكيف يمكن أن يرضى ذلك لإطار يراد أن يصبح دولة لشعب فلسطين بعد كل هذه التضحيات الجسام طوال عقود من الزمن. إننا في مواجهة هذا الواقع القائم لا نتحدث عن عناد وإنما نطرح رؤية وفكرة وتجربة ومنهجاً ونظرية جربتها شعوب قبلنا وعشنا نحن هذه التجربة في لبنان.
إذن فإن العدو يمكن دحره من خلال استمرار الإرادة والصمود والمقاومة. الصحافة "الإسرائيلية" والسياسيون والعسكريون "الإسرائيليون" يتحدثون الآن عن فشل عملية "السور الواقي" ولم يعد هناك من يتحدث عن نجاحها. لقد كان كل من بن اليعازر وزير الحرب وشاؤل موفاز رئيس أركان الجيش الصهيوني متفائلين عندما تحدثا عن أن المقاومة في فلسطين لا يمكن أن تستعيد بنيتها الجهادية بعد ما لحق بها من ضربات غادرة، لكن ما هي إلا أيام قليلة وانطلق المجاهدون الفلسطينيون لينفذوا سلسلة عمليات في الضفة الغربية وفي أراضي 48 التي سمعنا بها جميعاً. ولذلك لجأت إسرائيل إلى سياسة جديدة سميت سياسة "الباب الدوار"... فهم يدخلون ويخرجون إلى المدن الفلسطينية بشكل دائم، لهدم المنازل واعتقال المجاهدين وترهيب السكان، وهنا نعود ونقول: إن الذي أفشل عملية "السور الواقي" بالرغم من كل التضحيات والآلام والأحزان استطاع أن يفشل سياسة الباب الدوار وأية سياسات عدوانية قادمة بالرغم من كل المعاناة والمصاعب. لقد كان الرد على المجازر والسياسات الدموية والعنف لاسيما ما حصل في 15 خرداد، حيث قتل خمسة آلاف إيراني في ساعة واحدة، هو أن تستمر الانتفاضة الإسلامية المباركة في إيران لتنتصر بعد 16 عاماً. كما كان الرد على مجزرة صبرا وشاتيلا (1982) أن تنطلق المقاومة في لبنان، والرد على "القبضة الحديدية" في جنوب لبنان قبل انسحاب عام (1985)، هو أن تتجذر المقاومة وتصبح أكثر عطاء واستشهاداً وبذلاً وكراماً وجوداً، والرد على مجزرة قانا هو أن تستمر هذه المقاومة. وكما كان الرد على السور الواقعي بالاستشهاديين، فإن الرد على السياسات الصهيونية سيكون بنفس الطريقة والأسلوب وهو ما يملكه الفلسطيني.. فما الذي يملكه الفلسطيني؟!. هي يملك مجلس الأمن؟ أم مؤسسات دولية؟ أم علاقات إقليمية ترجح مصالح الشعب الفلسطيني على مصالح "إسرائيل"؟.. أبداً هذه هي الإمكانية الوحيدة التي يملكها الشعب الفلسطيني، والذين يتخلون عن المقاومة فإنهم يقتلون الشهداء في جنين ونابلس مرة ثانية. ولو كان اللبنانيون تخلوا عن المقاومة لكانوا شركاء في المجزرة في قانا وفي صبرا وشاتيلا أيضاً. إذن هو هذا الطريق الذي يجب أن نتابعه، والذي تعلمناه من الإمام الخميني (رض)، فيجب أن نستمر في الجهاد والنضال والمقاومة والحضور في الميدان وعدم الخضوع، وبعث الأمل وروح التفاؤل في الناس.. علينا أن نحول مسار المعركة إلى الوضع الذي يصرخ فيه الصهاينة المحتلون، قتلة الأنبياء والرسول والأبرياء والمساكين ويتراجعوا هم ويندحروا هم، وهذا يوم آت لا ريب فيه.
إن المدرسة التي انتمى إليها الإمام الخميني وبعث فيها الحياة وأعاد تأصيلها من جديد في رؤية فكرية وفقهية وسياسية وجهادية واضحة، هذه المدرسة عاشت كل هذه التجربة وكل هذه التضحيات وكل هذه الانتصارات. وبالتالي علينا في ذكرى الإمام الذي لن تغيب شمسه على الإطلاق أن نلتزم هذا النهج، وهذا الطريق الذي قدمنا فيه الشهداء والتضحيات، ولكننا لم نجد في نهايته إلا النصر والعزة والكرامة لنا ولشعبنا ولوطننا ولأمتنا ولكن إنسان مظلوم ومعذب. عهداً للإمام أنه سوف يبقى الحاضر الأكبر في العقل والقلب ومع الدم في الشرايين حتى تتحقق كل الأهداف العظيمة والجليلة.
احدث الاخبار
العميد جلالي: بنيتنا التحتية الصاروخية تحت الأرض سليمة ولم تمس
برّ الوالدين في سيرة أهل البيت عليهم السلام
خطيب جمعة طهران: صمود المقاومة الإسلامية هو ثمرة التأسي بمدرسة القرآن الكريم
السيد الحوثي: الاستقرار لن يبقى في المنطقة ما دام الاحتلال مستمر في فلسطين
ثروة باقية؛ المقاومة في لبنان من نشوء الحالة الإسلاميّة إلى التأسيس حتى «طوفان الأقصى»
قائد الثورة الإسلامية: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وأمريكا جوهري، وليس تكتيكيا
التبيين في نهج السيّدة الزهراء عليها السلام*
قيم الحياة الزوجيّة في سيرة أهل البيت عليهم السلام
عمائــــــم سلكت درب الشهادة (1)
الشيخ نعيم قاسم: أمريكا ليست وسيطا نزيها ودعم المقاومة واجب
الاكثر قراءة
أحكام الصوم للسيد القائد الخامنئي
ما أنشده الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في حق الإمام الخامنئي
أربعون حديثاً عن الإمام الكاظم (عليه السلام)
أربعون حديثا عن الإمام الهادي (ع)
مختارات من كلمات الإمام الخامنئي حول عظمة السيدة فاطمة الزهراء(عليها السلام)
مبادئ الإمام الخميني العرفانية
أربعون حديثاً عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
ماذا يقول شهداء الدفاع عن العقيلة؟.. الشهيد السيد إبراهيم في وصيته: لقد ذهب زمان ذل الشيعة+ صور
شهيد المحراب (الثالث) آية الله الحاج السيد عبد الحسين دستغيب
تقرير مصور عن شهداء الحجاز الذين استشهدوا في جبهات الحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية